التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرياضات الالكترونية: نحو تشكيل ثقافات شبانيه جديدة


أ.د باديس لونيس

رئيس قسم علوم الإعلام والاتصال وعلم المكتبات

جامعة باتنة 1/ الجزائر

صباح يوم 19 أكتوبر من عام 1972، وفي مختبر صغير بجامعة ستانفورد، وقف ستيوارت براند (Stewart Brand)، الناشط الشاب في مجال التكنولوجيا والثقافة أمام مجموعة من الطلبة المتحمسين للمشاركة في أول بطولة رسمية للعبة الفيديو "حرب الفضاء" (Spacewar). ولم يكن أحد من الحاضرين ومنهم ستيوارت يتخيل أن هذه التظاهرة البسيطة، التي سيفوز المنتصر فيها باشتراك سنوي في مجلة (Rolling Stone)، ستكون الشرارة الأولى لعالم كامل من الرياضات الإلكترونية (ESports). والآن يمكننا أن ننظر إلى تلك البطولة على أنها لم تكن مجرد منافسة بين مهارات مجموعة من الطلبة في لعبة رقمية بدائية، بل كانت بمثابة غزو نحو مستقبل جديد، حيث تحولت الألعاب الالكترونية من مجرد ترفيه فردي مؤقت إلى صناعة كاملة متكاملة الأركان، وما بدأ كفكرة في ذهن براند تبيّن أنها قد حملت في جوفها ملامح تحولات تقنية ورياضية ضخمة ستكون لها انعكاسات اقتصادية ونفسية وثقافية غير مسبوقة.

إنها ليست مجرد رياضات إلكترونية؛ إنها ثقافات تتشكل داخل الألعاب

بعد مرور خمسة عقود من بطولة "حرب الفضاء". تم ما بين يوليو وأغسطس الماضيين، تنظيم أضخم مسابقة للألعاب الالكترونية في التاريخ متمثلة في بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية في بوليفارد رياض سيتي بالسعودية. ويُعتبر هذا الحدث مفصليا ومنعطفا محوريا في هذا المجال، إذ وصل مجموع جوائزها إلى 60 مليون دولار، وهو ما يعكس بوضوح الحجم الهائل الذي بلغته هذه الرياضات على الساحة العالمية. هذا الرقم الضخم لم يكن مجرد قيمة مالية فحسب، بل إنه عكس مدى الجاذبية المتزايدة لهذه الرياضات الإلكترونية بين الجماهير والمؤسسات الكبرى، حيث باتت تُنافس الرياضات التقليدية من حيث حجم الجماهير والتغطية الإعلامية والإقبال التجاري. إن تحويل الرياضات الإلكترونية إلى مجالات ذات استثمارات كبيرة تحت رعاية شركات ضخمة يؤكد أن هذه الصناعة لم تعد مجرد نشاط ترفيهي بل إنها تحيل إلى أننا نسير بخطى حثيثة نحو تشكُّل ثقافة جديدة بدأت ملامحها تظهر للعيان.

 تتجلى ملامح هذه الثقافة الجديدة التي تدمج بين عناصر التقنية الحديثة والمنافسة الرياضية التقليدية. من خلال كيفية تفاعل الأفراد مع/وداخل الألعاب الرقمية، حيث يتمكن اللاعبون والمشجعون من الانخراط في تجارب تفاعلية تتيح لهم التواصل والتعاون في بيئات افتراضية. هذا المزيج بين التكنولوجيا والتنافس الرياضي يعكس تحولًا جذريًا في كيفية فهم الرياضة، حيث لم يعد اللعب مقتصرًا على الملعب المادي الفيزيقي بل انتقل إلى فضاءات رقمية تتجاوز الحدود الجغرافية. علاوة على ذلك، تسهم هذه الثقافة الجديدة في إعادة تعريف مفهوم الهوية والانتماء؛ حيث يبدأ اللاعبون في تطوير هويات جديدة تتعلق بالمنصات الرقمية والألعاب التي يمارسونها، أين يتم الاعتراف بهم كجزء من مجتمع أكبر يتجاوز الممارسات الرياضية التقليدية. وإذ نجد أن الروح التنافسية السائدة في الرياضات التقليدية مستمرة في الإمساك بالعمود الفقري للرياضات الإلكترونية، فإنها من خلال هذه الأخيرة ستتعزز بشكل مكثف أكثر مما سيشجع على استكشاف وتطوير مفاهيم مثل المهارات الرقمية، الاستراتيجية، والتفكير النقدي، والتي تعتبر أساسية في العالم الرقمي المتسارع اليوم. وهو ما سيوفر في مرحلة ثانية، فضاءات تسمح للأفراد بالتعبير عن أنفسهم بطرق متعددة وغير تقليدية.

في هذا السياق، يتاح للاعبين فرصة استكشاف جوانب متنوعة من شخصياتهم، مما يعزز من قدرتهم على تشكيل هويات جديدة تتناسب مع اهتماماتهم وألعابهم المفضلة، وبدلاً من أن تكون الهوية مرتبطة بمكان جغرافي أو تقليدي، تصبح الهوية الرقمية قائمة على المهارات، والتفاعلات، والانتماء إلى مجتمعات معينة داخل العالم الافتراضي. هذه الديناميكية تؤدي إلى ظهور هويات جماعية تتشكل حول الألعاب والفرق، مما يؤدي إلى تطور رموز وقيم جديدة تعزز من مشاعر الانتماء إلى تلك العوالم. هذه الممارسات تمتد إلى بناء علاقات افتراضية قوية بين اللاعبين، حيث يتواصلون ويتعاونون لتحقيق أهداف مشتركة، أو حتى يتنافسون بشراسة، مما يعزز من الروابط الافتراضية التي قد تكون أحيانًا أقوى من العلاقات الاجتماعية التقليدية. وفي النهاية، نجد أن الرياضات الإلكترونية تسهم في خلق مساحة جديدة يتفاعل فيها اللاعبون مع مفاهيم مثل القوة والسيطرة، وفي الوقت ذاته يعيدون تعريف القيم الاجتماعية التقليدية في ضوء ثقافة افتراضية معقدة.

إن هذا التشكل للثقافة على المستوى الفردي يصير ذا معنى أوضح إذا انتبهنا إلى أن هذه الرياضات شبابية بالأساس؛ إذ تقول الإحصائيات العامة أن متوسط السن الذي ينهي فيه ​​اللاعبون المحترفون مسيرتهم المهنية لا يتعدى سن 25 عامًا، بعد دخولهم المجال منذ سن المدرسة الثانوية. أما بالنسبة لجمهورها، تُظهر الأبحاث أن 32٪ من المستخدمين الذين يشاهدون بطولات الرياضات الإلكترونية في جميع أنحاء العالم تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا، بينما 30٪ تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عامًا، و19٪ تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عامًا. وهذا يعني أن ما يقرب من ثلثي الجمهور يقعون في فئة الجيل Z / الألفية، والذين نشأوا جميعًا تقريبًا كمواطنين رقميين.

 إنها ثقافات تتشكل خارج الألعاب أيضا

إن الدلالات الرئيسية للانعكاسات الثقافية للرياضات الالكترونية قد توسعت بشكل متزايد لتلامس مجالات أبعد مما يحدث داخل الألعاب او حتى تلك التي ترتبط بالفاعلين الفعليين الذين تقوم عليهم هذه الرياضة. فقد وصلت لتتمظهر في أحدث الاتجاهات التكنولوجية والموسيقية وفي الأزياء والترفيه، وكيف تتفاعل الرياضات الإلكترونية مع الثقافة الشعبية بشكل عام.

فقد أدى صعود الرياضات الإلكترونية إلى إحداث تحولات جوهرية مثلا في الصناعة السينمائية والدرامية، سواء من خلال الموضوعات التي تطرحها أو التقنيات التي تعتمدها؛ إذ أصبحت الألعاب نفسها مصدر إلهام قوي لقصص الأفلام والمسلسلات. مثل أفلام (Assassin's Creed) و (Warcraft)، وكذلك مسلسل (The Witcher) وقد وصل المسلسل التلفزيوني المتحرك Arcane (المستند إلى لعبة League of Legends من RIOT Games) إلى المركز الأول على (Netflix) في 50 دولة. بل قد امتد التأثير حتى إلى أسلوب السرد المعتمد في الأفلام الحديثة والمستلهم من الألعاب الالكترونية مثلما هو شأن أسلوب تعدد المسارات أو النتائج بناء على قرارات الشخصيات.

ومن دلالات هذا التوسع الثقافي أيضا الاندماج الذي حدث بين مجالين كان يُعتقد إلى وقت قريب أنهما منفصلان تمامًا: الموضة والرياضات الإلكترونية، ومثال ذلك؛ الشراكة التي أعلنت عنها شركة الأزياء الشهيرة (ASOS) مع علامة الرياضات الإلكترونية (Fnatic). ولا تُعتبر هذه الشراكة مجرد تعاون تسويقي، بل إنها تعكس تحولات أعمق في فهم كيفية تشكل الهويات الثقافية في العصر الرقمي، حيث أصبحت الألعاب الإلكترونية والأزياء تعبران عن هوية شبابية جديدة تتفاعل مع التكنولوجيا والاتجاهات الحديثة بشكل متزايد.

ختاما،

نؤكد على أن الرياضات الإلكترونية صارت تمتلك قوة هائلة في تشكيل ثقافات على عدة مستويات؛ وإن كانت لها تأثيرات ثقافية إيجابية كروح التنافس والابتكار والتفكير النقدي والاستراتيجي، إلا أنه علينا ألا نغفل أنها أيضا حقل خصب لنشوء ثقافات أخرى، مثل ثقافة العنف والانتقام، حيث تعتمد بعض الألعاب على سيناريوهات قتالية وصراعات عنيفة تحث اللاعبين على الانغماس في معارك افتراضية قد تؤدي إلى تعزيز مشاعر العداء والكراهية. هذه الثقافة قد تثير بعض التساؤلات حول تأثير هذا النوع من الألعاب على الجانب النفسي والسلوكي، خصوصًا بين الأجيال الشابة في ظل سهولة إدمان تلك الرياضات.

لهذا وجب على الجامعات العربية مسايرة هذه التحولات بمزيد من الاهتمام الاكاديمي من خلال إجراء دراسات وتظاهرات علمية تتابع هذه الظاهرة بالبحث والتمحيص لفهم أبعادها المختلفة، ومن ثم المساهمة بنشر الوعي الثقافي حولها؛ ممارسةَ فردية أو جماعية، في سياقات ودية أو رسمية منظمة.

* نُشر المقال في العد 582 من المجلة العربية.

يمكن تحميل العدد كاملا: من هنا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

تحميل جميع أعداد مجلة "عالم الفكر" من 1970 إلى 2016م