التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السكن في العراء؛ قراءة في الفيلم المثير للجدل "أصحاب ولا أعز"

د. يوسف بودن:

أعشق السينما لأنها تقع في صلب العمارة، لا لأن الحكاية السينمائية تجري في سياقات معمارية وإنما لكونهما يقترحان على القارئ طريقة في السكن في العالم. والفيلم (أصحاب ولا أعز) الذي تابعته اليوم يقترح على المشاهد سكنا في "اللاماكن" كما يحب (مارك أوجي) أن ينعت خطاب الحداثة الفائقة. في بيت بعيد عن النسيج المديني، سعيد بعزلته الإجتماعية، متوحد بعمارته التفكيكية وإن كان مكعبا صامتا، حوارات الأصحاب فككت المكعب وجعلته شظايا لا تنتمي إلى أي جهة. يلوح في أفقه خسوف استدعته الحبكة الفنية للتعبير عن الوجه الآخر للقمر او للانسان. ساهمت الموسيقى التصويرية في بناء الزمن الباطني الذي تولدت منه حوارات هشة. الفيلم العربي ترجمة للفيلم الإيطالي (perfect strangers) ولم يحاول المخرج ارتكاب خيانة ملهمة لتقديمه للمشاهد العربي بل فرض عليه رؤية فقيرة للإنسان المعولم.

1- اختار الفيلم اللهجة اللبنانية ليقول ما لا تجرؤ السينما العربية عموما على قوله. اللهجة اللبنانية تختزن وقاحة هائلة،ربما أصبح من اللازم عليها أن تجري تعديلا في نبرتها لتتجنب الحروب الأهلية و موت بيروت، أصل الحرب الأهلية في لبنان يعود إلى لهجته العنيفة!

2- ينتمي الإنسان التي تقدمه حكاية الفيلم إلى مادة الإنسان الطبيعي، الإنسان الذي روجت له الفلسفة المادية على أساس قدرته على انتاج القيم من داخل التجربة ذاتها دون اللجوء إلى أي معيار خارجي ولذلك لم تنسب كل الإنتهاكات الأخلاقية التي تابع المشاهد تفاصيلها إلى الشذوذ أو الإنحراف أو الخيانة لأن النسب سيحيلها إلى رحمها الديني وإنما نسبها الأصحاب لإتيقا سطحية قائمة على مبدأ: صارحني وافعل ما تشاء. ولا أعلم مبدأ يقتل النقد في مهده مثل القاعدة الماكرة: اقبلني كما أنا.

3- كل الكلام يدور حول المائدة، مأدبة الدردشة والأكل معا، ثم تبدأ اللعبة التي يشارك الأصحاب جميعا في بلورتها. كانت اللعبة بمثابة مفتاح سحري شرع باب المخبوء، ماذا يُخبئ كل واحد عن شريكه أو شريكته ،إذا ما سمعوا و قرأوا جماعيا كل ما سيصلهم على هواتفهم الشخصية لحضتئذ من رسائل قصيرة أو مكالمات ، وهنا ينكشف الجانب الآخر الذي لا تعلمه الزوجات عن أزواجهن أو الأزواج عن زوجاتهم. أستعمل مفردة "زوجة" تعسفا لأن طبيعة العلاقة التي تقترحها الحكاية تتبرأ من هذا الموروث بل تناهضها لتؤسس لشراكة "تقنية" ترفض أي دلالات روحية أو سلطوية، هم لا يؤسسون أسرا بالمعنى المتعارف عليه وإنما تعاقدات عابرة يكون فيها البكاء والإحتجاج مناسبة للرضوخ للأمر الواقع. ولذلك استبعدت هذه العلاقات الفقيرة الأم من البيت و بررت أخطاء البنت واهملت آثار الكلام على الروح . لقد حاولت الحكاية تفكيك المعاني الكبيرة واستبدالها بمعاني تعمدت أن تجري عليها عمليات تجميلية لتمريرها، ألم تسْعَ إحدى الشخصيات إلى إجراء عملية "تكبير الصدر"؟ هذا ما قامت به الحكاية أيضا، تكبير صدر المعاني العابرة!

4- ماذا تعني "كلمة المرور" (Password) المتواترة في حكاية الفيلم؟ إنها تدعو الإنسان للخطأ لأنها تفترض في شريكه الخيانة المسبقة. كأنها تستدرجه إلى دائرة الديون الأخلاقية ليرضخ في النهاية ويتقبل التطبيع مع كل شيء، الإنسان ذئب الإنسان هذا ما يفترضه وجود كلمة المرور. وما قاله زيغمونت باومان بشأن الحياة السائلة التي لا يهدأ لها بال حتى تهدم اركان ما تأسس سابقا، نجد ترجمته في الحكاية، كل كلمة فيها هي تقويض وإنتهاك. هل اقتبس المفكر فكرته عن السيولة من تجربة التيه الإسرائيلي؟ هذا ما تقوله جميع النخب المنتمية إلى هذا المسار.

وهذا ما تقترحه الحكاية ذاتها، السكن في العراء!

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).