التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في حوار مع الباحثة مريم ضربان: التضليل الإعلامي ظاهرة قديمة لبست عباءة الافتراض

حوار: فاطمة الوحش

في حوارها مع « الشعب ويكاند»، تتطرق الباحثة مريم ضربان إلى أزمات الميديا الأخلاقية في ظل الحداثة المتأخرة وأزمنتها السائلة، أزمنة استهلاك الحدث على حساب المعنى، معرجة على الحقل المفاهيمي لعلم اجتماع الزمن وفلسفته، خاصة الدرومولوجيا بوصفها علم السرعة والتسارع التقاني، الذي شذّر الممارسة الإعلامية وعصف بقيمها وهويتها في البيئة الهجينة للإنترنت، مما أوجد ممارسات دخيلة من قبيل صحافة الهاكر، وظواهر التضليل الرقمي والأخبار الكاذبة.

مريم ضربان، أستاذة الإعلام والاتصال بالمركز الجامعي مرسلي عبد الله، تيبازة، وعضو بالجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، الجزائر العاصمة.

الشعب ويكاند: تهتمين بمفاهيم التسارع والتيربو والدرومولوجيا في تفسيرك لأزمات الميديا الجديدة، ما دلالة هذه المفاهيم؟
مريم ضربان: في الحقيقة، تنسب هذه المفاهيم إلى حقول علمية متواشجة ببعضها، أهمها فلسفة وعلم اجتماع الزمن، فالدرومولوجيا (dromology) هي علم السرعة، اضطلع بمفهمتها الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو (Paul virilio) مهتما بها كسلطة «سلطة السرعة» (dromocracy)، لها معناها كقيمة لقياس قوة النظام السياسي وسيطرته، هذا المعماري الذي اختطفته فلسفة الهندسة لقياس المسافة بالوقت، محيلا إلى وجود علاقة جدلية بين الثروة والسلطة والسرعة، وأن الأخيرة باتت محركا تاريخيا للأمم، حيث فرضت التقنية تأثيرها على البيئة والإنسان والجيوسياسة، بدأ الأمر بكونها حاجة تقتضيها أزمنة «هنا والآن» السائلة، كعملة لتداول البقاء في النسق الفوضوي، فالاقتصاد العسكري، هو في الحقيقة حرب وقت، من يكسب السلاح أولا، تكنولوجيته واستخدامه، والدعاية هي الأخرى من منظور غوبلز (J. Goebbels) الذي يؤثر في خلفية فيريليو الفكرية- هي حرب احتلال للفضاء بسرعة الكذب واستغلال الحشد، حيث يؤسس انتشار الدعاية لما يسميه باسكال بونيفاس (P.Boniface) بـ»الكذب الإعلامي» أو الحقيقة الإعلامية: «إن من يقول الكلمة الأولى للعالم على حق دائما»، «ينبغي أن تتم الدعاية مباشرة بالصوت والصورة، لأن زمن القراءة يتطلب وقتا للتفكير، والبطء كفيل بتحطيم الفاعلية الحيوية للجماهير»، «من يستطيع السيطرة على الشارع يسيطر في الآن نفسه على الدولة»، هذه المقولات الغوبلزية مجتمعة تؤكد فرضيته في أن السرعة تستعبد الحشد، لتسريع التصادم والاشتباك، وهنا يقوض الأمن، أمن الحقيقة والواقع، أمن الشارع والمدينة، أمن الحجة والتأنّي.
ثم إن الإفراط في السرعة، قد أدى إلى ريضنة العالم (mathématisation du monde) على قول شايغان فأفقرته أنطولوجياً، وأفقدته معناه وسحره وهالته وقداسته، وزادت من شتاته وتشذره، ويلتقي الشتات وفقدان الرنين والقلق والإحباط والسيولة كمفاهيم تصف أزمات الحداثة المتأخرة، الفائقة والمفرطة، بفكرة عدم تحكمنا في نسبة تغيير السرعة وتدفقها، هنا ظهر التسارع (acceleration) الذي خطّه الفيلسوف الألماني هارتموت روزا (Hartmut Rosa) واصفا دخول العالم في اغتراب بسبب مجاعة الوقت، فالإيقاع الذي أرساه الزمن الرقمي والافتراضي يضغط حاضرنا ويجعل أجيالنا تتقاطع، ووتيرة حياتنا تسابق معيشنا، هنا يقف غير بعيد جيل ليبوفتسكي (G.Lipovetsky) بتوليد مفهوم الزمن الاستهلاكي المتعي، بما أسماه المستهلك التيربو (turbo)، أي الذي يهمّه تسريع المتعة على حساب معناها.
ومنه غيّبت هجانة الأفضية والأزمنة عن الممارسة الإعلامية ملامحها، فانزلقت نحو أزمات قيمية، قوّضت مصادرها وأسسها وأشكالها وهويتها، بما كنا نسميه فنيات التحرير، والقيم الإخبارية، فباتت كل عناصر الاتصال هلامية في ظل انصهارها ضمن ميديولوجيا الافتراض، وتعقّدها بما يسمى اليوم بـ»تشذر الأنشطة» الإعلامية (multitasking) وولادة ممارسات من قبيل: صحافة المواطن والصحافة المزيدة (Augmented Journalism)، وصحافة الهاكر (journalism hacker)، بوصفها ممارسات واصفة لحمى السبق الصحفي، وحتى لا تكون نظرتي اقصائية عدمية فإن التقانة منحت أفضالها للميديا وإن كنت أميل للتكنوفوبيين.
- تعتقدين إذن، أن الإعلام الرقمي اليوم يعاني من أزمات قيمية مرتبطة بهجانة هذه البيئة ؟
 أكيد، إذا كان الفيسلوف الفرنسي إدغار موران ( E.Morin ) أدخلنا معيش الآزمية المستديمة، فإن تعقيدها انتقل إلى الإعلام بخلق عطب أخلاقي، انتهك الهوية المهنية للصحفي، والممارسة الإعلامية الأصيلة، فالبيئة المهجنة واختلاط المتلقي بالباث والمنتج بالمستهلك والصحفي بالمواطن، والصدق بالكذب، أوجد خطاب الثنائيات المتفاضلة، صحافة «التداول» ( sharing ) على حساب صحافة النبأ والخدمة، وصحافة المرئية والانتشار على حساب الصدقية لحصد الإعجاب (like) كعملة للبقاء في منصات مواقع التواصل الاجتماعي، لم يعد فيها المحتوى مهما مادامت ديمومة «هنا والآن» والخوف من النسيان هي الدافع النفسي للممارسة، لأن حارس البوابة قد كسر، فبات النشر أولوية على الغربلة، وإن تم تكذيبها تلجأ القنوات إلى عاجل مفاده «لم نتأكد من صحتها» وكلمة «متداول»، أو حتى تنشر الخبر مرفقا بهذه القولة، للتهرب من التصويب، أو إبراء ذمة استباقي، وكل هذا مرده ثقل الخطاب الزمني وانعكاساته على الإعلام والسياسة وبقاء القنوات على قيد الحياة في سوق تغيرت عملتها، وهنا يخلق الاستعجال مشكلة الريبة للصحيفة والمؤسسة الإعلامية، وللدولة في أمنها الموسع.
- ما علاقة السرعة بشيوع ظاهرة الأخبار الكاذبة والتضليل الرقمي؟
في البنى السيكولوجية للزمن، يتحول الحدث إلى زمن، ويتحول إدراكنا للحدث في لحظته إلى شعور، مبني على «إعارة الانتباه» أو «الإصغاء»، وتخدمه هنا أيقونة «العاجل»، على أن العاجل يصطدم بحقيقة «الشك»، «فالإشاعة، الدعاية والتضليل الإعلامي» ظاهرة قديمة لبست عباءة الافتراض مع مواقع التواصل الاجتماعي، فحظيت الأخبار الملفقة، بالانتشار والتمدد، خارج إكراهات الفضاء، وعدم القدرة على اللحاق بحقيقة الخبر في ظل ثنائية الوفرة والوفرة المعممة، حيث يسمى على طريقة أورويل في وزارة الحقيقة بـ»المضلل رقم 0» ، أما التضليل الرقمي فيبنى بذكاء توظيف إستراتيجية خطيرة يعضد فيها الواقع بالكذبة، والمونتاج بالاستحضار أي إعادة استغلال الماضي في الحاضر، حتى بتنا نتساءل في إيمان لايقيني: «هل هذه الأخبار جديدة أم قديمة ؟»، وأثني على وجود تقنية (/security in depth Layered security)، كإستراتيجية عملياتية ميديانية تستخدمها أجهزة الدفاع للكشف عن الهويات الملفّقة، أما نفسيا، يصنف الأمر كمرض لتحقيق الذات والاعتراف بها في هذه الأفضية، وشراء نجومية عابرة، والترويج للاتصال الشخصي الجماهيري ولو بأخبار تافهة لصناعة الاستقطاب، قد يصل الأمر بالميديا غير المحترمة، أن تحول أحداثها وحواراتها إلى تشويه بالحدثية ( événementialité) بوصفها اختلاقا لقصص كاملة مشبعة بالتهويل والوجدنة، ومنقوصة ومبتورة عما سبقها وما يليها، حيث تحولت البلاتوهات وقاعات التحرير إلى غرف نفسية شبيهة بمراكز للأفكار ( think tanks ) موجهة للقلب أكثر من العقل، والعاطفة أكثر من الحجة، والرعب أكثر من الاطمئنان، وهو ما يقوض الأمن الإعلامي بهذه السيودولوجيا.
- في قيمنا لنشر الأخبار نعتمد على قيمة السبق الصحفي، ألا ترين أن الصحافي في زمن الميديا الرقمية يخلط بين مفهومي السرعة والتسرع ؟
 أكيد، نحن نعيش اليوم في مجتمعات باركنسيونية ( parkinson’s law) يحكمنا قانونها، قانون اللحظات الأخيرة والحرجة، «لا وقت لدينا»، هنا ندخل معضلة الاستعجال والتسرع، لأن التباطؤ يضمن حقنا في الصحيح والجاد، ويحرمنا في الوقت نفسه حق اللحاق، وفي هذا السياق، ظهرت للوجود أشكال جديدة للتعبير عن علاقتنا بالزمن هي الاستعجال والمباشرة والآنية والسرعة، يعجبني كارل أونوريه عندما عنون كتابه بـ»في مديح البطء، حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة»، كما تروقني المقايسة الخلاّقة الماكلوهانية للدكتور الجزائري فلاق شبرة صالح» «الرسالة هي السرعة» واصفا رهاب الاستهلاك الخبري على حساب القيم الإخبارية وتفاصيلها وعمقها، الأمر الذي قوّض الضبط الإعلامي القبلي لحراس البوابة، ومنه ضياع هويتها الاحترافية والافتتاحية. وأعيب كما يعيب فيليب سـيب ( Philip Seib ) في لائحة اتهاماته القوية لمعظم البرامج الإذاعية والتلفزيونية الإخبارية المبنية على صحافة الوقت الحقيقي ( real-time journalism ) وما تقدم من أخبار استهلاكية يقتضيها عصر السرعة، الذي نخشى فيه التفكير والتأكد والتريث، لأننا لا نملك وقتا لذلك، فصار التسرع يتلقف السبق الصحفي لصالح الزمن الميدياتيكي الذي يرزح في نظر عبد الله الزين الحيدري بين السرعة اللحظية وسرعة الطواف لأجل التأثير على شعوب الانترنت، فالتسرع أفرغ المعنى من محتواه، ولأن الخبر الذي لا يذاع أو يبث أو ينشر –أو ثلاثتها- وقت حدوثه يصير مثل السر بعد البوح به، لا قيمة له، تحولنا إلى عبيد لقاموس الزمن «الوقتية، الراهنة، الحالية، الآنية، الفورية، الجدة والحداثة».
- إذن أمن المصدر وأصالته أولوية في منظورك ؟
 نعم، أخلاقيا أو دينتولوجيا أي في نظرية الواجب الأخلاقي للممارسة المهنية، هناك درجة ارتباط وثيقة بين صدق المصدر والثقة فيه من جانب الجمهور، وبالتالي درجة الإقناع مردها أهلية المصدر وسمعته، حتى لا تسيء إلى المؤسسة الإعلامية، فإن أرادت إخفاء مصدرها فحري بها التأكد من أهليته، أي الجهة المخولة للإدلاء بالمعلومة، فالافتقاد للمصداقية يبعد الوسيلة الإعلامية عن السياق الاحترافي الذي يفترض أن تتمتع به، ويخلق أزمات سياسية ودبلوماسية وثقافية، أو لنقل على كل الصُعد.

المصدر: جريدة الشعب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).