التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فضيل دليو .. ربّان سفينتنا التربوية والمنهجية

 د. عيسى بوعافية

ربما يحيا الإنسان الذي يعيش لنفسه حياة هادئة مطمئنة ، لكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا .. أما الذي يحمل عبء رسالة ، ويوزع - في سبيلها - سِنِي عمره على الآخرين ، فذاك الذي يعيش كبيرا أبدا سرمدا .. إن النفوس المفعمة بالكمال ، الفياضة بالبر والإحسان ، هي التي تنبجس منها ينابيع الخير ، فتروي الدنيا والناس أجمعين ..

والحمد لله أننا مثلما قرأنا سير أعلام النبلاء على صفحات الكتب ، عايشنا أعلاما كبارا في الواقع ، لا يهتمون بالمظاهر ، ولا تستهويهم الشكليات ، إنهم يحيون بإخلاص من أجل رسالتهم ، فلا يهمهم أن تنتصر تلك الرسالة على أيديهم أو على أيدي غيرهم .. لأنهم يفضلون العمل بصمت .. بعيدا عن الأضواء ..
ركن عتيق من أركان الجامعة الجزائرية ككل ، وأحد أبرز سفراء جامعة قسنطينة إلى جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية .. وواحد من أبرز الأساتذة والباحثين الرساليين المتمكنين ..الذين أَحبَّتهم جامعة الأمير بجدرانها ، وأروقتها ، وأقسامها ، ومدرجاتها، فضلا عن طلبتها ، وأساتذتها ، وموظفيها .. لما خصه الله به من علم ، وتواضع ، وأخلاق فاضلة .. إنه الأستاذ الدكتور : فضيل دليو ..
بدوار بني مسلم ، دائرة العنصر ، ولاية جيجل .. ولد الأستاذ فضيل؛ مطلع ربيع عام 1958 م ، ( مطلع "مغرس" بالحساب العربي ) ، من أسرة مجاهدة ملاحقة من طرف سلطات الاحتلال .. وقد استشهد والده في ريعان الشباب ( 24 سنة ) ، وهو لما يتجاوز الثالثة من العمر ، فتربى في حجر أم شابة ، مجاهدة ، قارئة للقرآن، لا تزال على قيد الحياة إلى الآن ، نسأل الله أن يحسن خاتمتها ..
بدأ أستاذنا مشواره التعليمي في كتاب القرية ، حيث قرأ القرآن على يد إمامها عم والدته ، وأحد تلامذة الشيخ ابن باديس عليه رحمة الله، وفيها درس السنة الأولى ابتدائي نظام مزدوج اللغة ، ثم انتقل مع عائلته إلى قسنطينة ، وفي مدرسة حي الشهداء ( حي الشهيد بودراع صالح حاليا ) أتم تعليمه الابتدائي ، مع ملاحظة أنه انتقل من السنة الثانية إلى السنة الرابعة مباشرة بقرار بيداغوجي ، بسبب نجابته .. وفي ثانوية يوغرطة ؛ أتم تعليمه المتوسط والثانوي باللغتين العربية والفرنسية ، ليتحصل على شهادة البكالوريا ، شعبة آداب في العام الذي ولدت فيه 1976 م ..
وفي جامعة قسنطينة ، تحصل على شهادة الليسانس في علم الاجتماع ؛ عام 1980 م ، ثم تم ابتعاثه إلى إسبانيا ، وبالضبط إلى جامعة كومبلوتانس بمدريـد ، ليتحصل على شهادة الماجستير في : علم الاجتماع ، عام 1983 م ، ثم على شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه ، عام 1987 م ، وفي العام ذاته تحصل على شهادة الكفاءة في اللغة الإسبانية ؛ من المدرسة الوطنية للغات بمدريد ..
ولم تتوقف مسيرة الأستاذ فضيل التعلمية / التكوينية ، فعلى إثر رجوعه إلى أرض الوطن والتحاقه بهيئة التدريس في جامعة قسنطينة ( جامعة منتوري ) ، عام 1988 م ، واصل مسيرته الدراسية ، فتحصل على شهادة ليسانس ترجمة عربية – فرنسية – إنجليزية ، عام 2005 م ..
درّس الأستاذ : فضيل دليو مقاييس كثيرة جدا ، منها : استراتيجيات التنمية ، الخدمة الاجتماعية ، نظريات الاتصال ، الاتصال والعلاقات الدولية ، الاتصال البيئي ، الاتصال والعلاقات العامة ، اتصال المؤسسة ، اقتصاديات الإعلام والاتصال ، وسائل الاتصال والرأي العام ، مدخل لعلوم الإعلام ، تاريخ وسائل الإعلام والاتصال ، تاريخ وسائل الإعلام والاتصال في الجزائر ، التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال ، مدخل إلى علوم الإعلام والاتصال ، الإحصاء الوصفي ، تقنيات تحليل البيانات ، المداخل الأساسية في بحوث الصحافة ، المناهج الكمية في بحوث الصحافة ، المناهج الكيفية ، البناء النظري والإجراءات الميدانية للبحث ، بحوث الإعلام والاتصال بين النظرية والتطبيق ، ... هذه في جامعة منتوري ، وجامعة قسنطينة3 ، كما درس في معهد الآداب واللغة العربية بجامعة باتنة ، وجامعة بسكرة ، وجامعة أم البواقي ، ودرّس اللغة الإسبانية في معهد العلوم الإنسانية ، تخصص تاريخ ، وفي معهد اللغات الأجنبية ، وفي مركز التعليم المكثف للغات ، بجامعة قسنطينة ، أما جامعة الأمير ، فقد درّس فيها : منهجية البحث وأدواته ، الإعلام والثقافة الجماهيرية ، مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية ، مناهج بحوث الاتصال والإعلام ، الإحصاء الاجتماعي وتطبيقاته في بحوث الإعلام والاتصال ، البحث التوثيقي ، حلقة البحث ..
أشرف وأطر من الرسائل العلمية ؛ ما يربو على المائة ، منها 56 أطروحة دكتوراه ، و 45 رسالة ماجستير ، و21 مذكرة ماستر .. كثير منها من جامعة الأمير عبد القادر .. أما المناقشات فأكثر من هذا بكثير .. كما ألف 47 كتابا مطبوعا ، تأليفا فرديا أو مشتركا ، باللغة العربية والفرنسية والإسبانية ، وله أكثر من 46 مقالا منشورا في مجلات علمية محكمة وطنية ودولية ، باللغة العربية والفرنسية والإسبانية أيضا ، و 11 مطبوعة بيداغوجية ، بالإضافة إلى أكثر من 16 بحثا علميا محكما في إطار الفرق البحثية المعتمدة ؛ بصفة رئيس أو عضو ، كما أن له نشاطا كبيرا جدا من حيث المشاركات في الملتقيات والندوات العلمية داخل وخارج الوطن ، تزيد على 70 مداخلة في ملتقيات وطنية ودولية ..
تقلد الدكتور فضيل دليو كثيرا من المناصب العلمية والإدارية في جامعة قسنطينة وفي غيرها ، من رئيس لجنة تربوية ، إلى رئيس للمجلس العلمي ، ورئيس لمخبر بحث ، وصولا إلى عميد كلية علوم الإعلام والاتصال والسمعي البصري ، قام بواجبها جميعا حق القيام ، دون أن يؤثر ذلك على همته العلمية والبحثية ! ولا على تواضعه الجم .. رغم كل تلك المناصب ، ورغم كل ذلك الإنتاج العلمي الغزير !
للأستاذ فضيل عضويات كثيرة في العديد من اللجان العلمية والبيداغوجية ؛ فقد شارك في وضع 13 برنامجا للتعليم والتأطير البيداغوجيين ؛ ليسانس ، ماستر ، ماجستير ، ودكتوراه .. وهو عضو في أكثر من 05 هيئات تحرير لمجلات علمية محكمة وطنية ودولية .. مما يؤكد قيمته العلمية ، وخبرته الإدارية والبيداغوجية التي لاتقدر بثمن ..
ولعل البعض يتصور أن شخصا بهذا الإنتاج العلمي الغزير ، وهذه المسؤوليات البيداغوجية ، والإدارية ، والعائلية ، لا يجد وقتا يتنفس فيه ، ولا مجال لديه لوقوف أو تقديم خدمة ! لكننا نشهد .. أن أستاذنا .. ابن مثالي ، فهو بر بأمه أشد ما يكون البر ! وزوج صالح ، وأب مثالي ، وأحنى ما يكون أب على أولاده ! وصديق وفي ، وجار طيب المعشر ، ومندمج اجتماعيا إلى أبعد الحدود .. يحافظ على صلاة الجماعة في المسجد .. يشارك في النشاطات الجمعوية مذ كان شابا مهاجرا في مدريد ، فقد شارك مع الشباب العربي والمسلم الأنشطة الرياضية والثقافية في فرق ممثلة لهم على مستوى مقاطعة مدريد .. كما شارك في النشاط الجمعوي بعد عودته إلى أرض الوطن ، فترأس لجنة حي بوذراع صالح ، ثم حي الإخوة بوخلخال ( قرب 5 جويلية ) على التوالي ، قبل أن يشارك في النشاط المؤسس لجمعية أبناء الشهداء ، بعد أحداث أكتوبر 1988 م، والذي انتخب فيه أول رئيس للمجلس الولائي للمنظمة في قسنطينة ، وعضوا للمجلس الوطني لها في الفترة الممتدة بين ( 1989 – 1991 ) ..
درّسني الأستاذ دليو مقياس : منهجية البحث وأدواته ، في السداسي الأول من السنة الأولى ماجستير ، ومقياس : حلقة البحث ، في السداسي الثاني منها ، وكان له - بعد الله - الفضل في تحويل مساري البحثي 180 درجة ، بعد صدمة صدمنيها ، وأنا أعرض خطة بحثي ؛ عن جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في التربية والتعليم !! فغدوت أبحث في تحليل مضامين مواقع الويب في مطلع القرن 21 م !!
استفدت من الأستاذ فضيل كثيرا من المعارف المتعلقة بمنهجية البحث ، فقد كنا ندعوه " أبا المنهجية " ، وكنا نتهافت على كتبه وبحوثه تهافت الفراش على النور ، ونعتبر آراءه وتوجيهاته المنهجية معايير وقوانين نحتكم إليها عند الاختلاف ، وكان كتابه الأخضر عمدتنا في ذلك ! بالرغم من أنه كان يعلمنا أن المنهجية مرنة ، وأن لكل اتجاه ورأي منهجي حظه من النظر .. إلا أن أكثر شيء ترك آثارا إيجابية في شخصيتي العلمية والفكرية والسلوكية ، هي أخلاقه الرفيعة التي لا يختلف عليها اثنان .. التواضع ، والحلم ، والرحمة ، والعفو ، والبشاشة ، وحب الخير للناس ، و ...
لقد أحلّنا من نفسه محل الولد من الأب الحاني .. كان يتخولنا بالمواعظ ، والنصائح والتوجيهات في حياتنا العلمية والشخصية .. ما أغلق دوننا باب بيته ، ولا باب مكتبه ، ولا ردّنا في أي وقت لجأنا إليه فيه .. ركبنا معه سيارته .. مشينا معه راجلين .. ما شعرنا يوما أنه يتبرم بصحبتنا ، أو يتعالى علينا !! وكم أعطانا دون مقابل !!
تشرفنا بالتلمذة على يديه ونحن طلبة ، وتشرفنا بالتلمذة على يديه ونحن أساتذة ، ولا زلنا نتشرف بالتربية والتلمذة على يديه ، وقد لاح الشيب في مفارقنا وعوارضنا ولحانا ..
وكأي عظيم .. تنشأ بذور السمو بين شمائله وهو صغير .. ثم تأخذ في القوة مع اشتداد عوده .. وتنضج عند اشتعال الرأس شيبا .. كذلكم هو أستاذنا .. ازداد حكمة وعلو همة وعظمة ؛ مع تقدمه في السن ..
إن الكثير منا يتبرم بالظروف التي نشأ فيها ، ويضعف أمام ما واجهه ويواجهه من ضيق وحرمان وافتقار ، لكن أستاذنا وأمثاله من العظماء ، تتفتق مواهبهم وسط تلك العواصف والأعاصير .. أعلم أن كثيرا من الذين يضيقون ذرعا بالنجاح ، ويتبرمون بالذكاء ، ويتمنون زوال النعمة ، وانطفاء العظمة ، وتحقق الإخفاق .. والذين يقابلون الجميل بالإساءة .. سيظنون أنني بالغت في إطراء الرجل .. ولكن ما راء كمن سمع .. ومن لم يكن له شهود ، مات أعمى ، كما يقول المثل العامي !!
عاش أستاذي يتيما ، محروما ، غريبا ، لكنه صبر وشكر .. ابتلي وأوذي ، لكنه صبر وشكر .. عودي وافتري عليه ، لكنه صبر وشكر .. ظُلِم فعفا وصبر .. ولما اقتدر ؛ عفا وأصلح .. وهذه لعمري أهم مؤشرات العظمة ..
أيها الطلبة ! أيها الباحثون ! الأستاذ الدكتور فضيل دليو .. قامة علمية وأخلاقية سامقة .. تستحق منا الحفاوة ، والتقدير ، والاحترام، والتنويه ، والإشادة .. إنه نموذج اقتدائي من الطراز الرفيع .. لو كان في غير بيئتنا وواقعنا ، ما ترك يمشي على الأرض .. أقسم بالله .. أقولها والعبرة تخنقني ، لأنني لا أجد في عباراتي ما يوفيه قدره .. أشهد الله .. وأشهدكم .. أنني أحبه في الله.. أسأل الله أن لا يؤاخذه بما قلت ، وأن يغفر له ما غاب عني وما جهلت ، وأن يجعله خيرا مما ظننت ، وأن يحفظه في صحته ، وفي أهله، وفي ذريته ، ، وأن يبارك في عمره وعلمه ، وأن ينصره على من عاداه ، وأن يجعل الفردوس الأعلى مستقره ومثواه .. اللهم اشفه شفاء لا يغادر سقما .. اللهم اشفه شفاء لا يغادر سقما .. اللهم اشفه شفاء لا يغادر سقما ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).