التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نصرالدين لعياضي يكتب: لسنا كما ظنَّ ابن الجوزي

 لا تعزو خطأ  الفكر للعين

نصر الدين لعياضي

رأيت فيما يرى النائم ابن الجوزي يضرب كفّا بكفّ ندما على بعض ما دونه في كتابه الموسوم: " أخبار الحمقى والمغفلين"، والذي يقول فيه:" إن عدمت من الأحمق فلن تعدم سرعة الجواب وكثرة الالتفاتات والوقيعة في الأخبار." ويقصد بالوقيعة في اللغة العربية التكلم عن الغائب بحقد وميل للإغاظة والقذف والافتراء. لقد ندم بعد استغراب لأن الوقيعة أصبحت اليوم شرط نجاح الصحف ورفع عدد قرائها. وأضحى مالكوها أذكياءَ جدا، في نظر البعض، لأنهم يعرفون جيدا من أين تُؤكل الكتف! أما الالتفاتة فأصبحت خَلّة الفطنة. فنادرا ما تجد أبناء الجيل الرقمي يحدثونك دون أن يكفوا عن النظر إلى شاشة هواتفهم الذكية ليقرؤوا الرسائل النصية التي تصلهم. أو ترى أحدهم يتصفح بريده الإلكتروني في هاتفه المحمول ويلتفت، بين الحين والأخر ، إلى شاشة التلفزيون ليتابع مشاهدة مسلسله المفضل. وقد أطلق الباحثون على هؤلاء تسمية الجيل متعدد " المهام"؛ أي الجيل الذي يستطيع انجاز أكثر من مهمة في آن واحد. وهذا خلافا لأبناء الجيل السابق الذين يكتفون بالقيام بشيء واحد فقط، وإن حاولوا القيام بعملين متزامنين يفقدون التركيز ويتشتت ذهنهم. أما سرعة الإجابة فهي مرغوبة اليوم، بل مطلوبة. والبطء فيها لم يعد يعبر عن رجاحة العقل ورزانة الفكر، بل بات يشي بقلة النباهة والخمول. والرّيث أصبح مذموما، ويدل على قلة المهنية في عالم الإعلام الذي تتدافع وسائله من أجل تحقيق السبق الصحفي. ويقصد بهذا السبق الإنفراد بنقل حدث أو تصريح في أثناء وقوعه، أو الحديث عنه قبل أن يجري ويشيعه الغير. فالميديا الجديدة لم تتفوق على وسائل الإعلام الكلاسيكية بذاتية ما تنقله فقط، بل بسرعة بثه أيضا. إننا نعيش ديكتاتورية السرعة، ومن لم يعجل، يتخلف إن لم يتعثر سواء في مجال الرياضة وتحقيق الأرقام القياسية أو في الألعاب التلفزيونية. وحتى الكمبيوترات أصبحت تقاس بسرعتها؛ أي بمقدرتها على معالجة أكبر عدد من العمليات في أقل وحدة زمنية ممكنة. فالفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني " هارتموت روزا"  يؤكد في كتابه المعنون:" العجلة: النقد الاجتماعي للزمن"، الذي صدر في 2005، أن جوهر الحداثة وطبيعتها تستند إلى العجلة. فالبطء في نظره يدل على " ثراء الوقت"، ويعبر عن الوضع الذي نتمكن فيه من إنجاز ما يجب أن ننجزه ونوفر دقائق وحتى ساعات من الوقت. ويعتقد أن البطء إحساس بالوقوف بمنأى عن الضغوط، خاصة تلك التي يمارسها الاستعجال, وشعور بحرية رفض القيام بأشياء لا نملك الوقت الضروري لإنجازها. فثروة الوقت لا تعني الملل، كما يفهمها الذين يعانون الفراغ، بل تفصح عن افلات من إكراهات الزمن.

لقد حلمت البشرية أو تمنت أن تستمتع بـــ" ثراء وقتها" بفضل التكنولوجيا.  فاعتقدت أن هذه الأخيرة توفر لها الوقت نتيجة إعفائها من القيام ببعض الأعمال أو في تيّسيرها. لكن هذا الأمر لم يتحقق قط. فازداد تبرم البشرية من ضيق الوقت أو حتى ندرته. هذه الندرة التي وصفها عالما الاجتماع الأمريكيين: جون روبرسون وغوفري غودبي بــ " العوز" أو الحاجة للوقت. قد يعترض البعض على ما سبق قوله لطابعه التعميمي. ويقدمون العديد من الأمثلة التي تؤكد أن الكثير من الأشخاص أصبحوا يعانون من فيض الوقت إلى درجة الملل. ألا يقول الجزائريون إننا " نقتل الوقت"؟ أي نعدمه لعدم حاجتنا إليه. لقد اندهش أحد رجال الأعمال الأجانب الذي زار بلدان الجنوب من المفارقة التالية: ارتفاع عدد حوادث السير فيها نتيجة السرعة المفرطة ووصول جل أبنائها إلى الاجتماعات متأخرين عن موعد انعقادها! بالفعل إن هذا الواقع لم يغفله أحد علماء الاقتصاد السويديين الذي  زعم أن " ثراء الوقت" لا يتناسب مع الثراء المادي. ويرى أن هذه القاعدة تنطبق على كل ثقافات العالم. ففي الثقافات التي يحفل أهلها بثراء مادي يعانون من إجهاد وقلق لإحساسهم بضيق الوقت أو قلته. أما المجتمعات التي يعاني أبناؤها من الشّظف المادي فينعمون ببذخ الوقت وفائضه إلى درجة أنهم يحتارون في صرفه! 

لعل ما يواسي ابن الجوزي ويخفف عنه ندمه هو الشعور الذي قد يكتنف كُتاب المجلة الأمريكية " لايف  Life  " عندما يعيدون قراءة ما كتبوه، في 1964، والذي أكدوا فيه أن أكبر معضلة تواجه البشرية في المستقبل القريب هو كيفية صرف وقتها الحر أو وقت فراغها الذي يتمدّد بفضل التكنولوجيا. لقد اعتقدوا أن هذه الأخيرة توفر المزيد من الوقت وإذا بها تسحب الكثير منه. فزاد القلق والخوف من وعلى ندرته!  

                                                     24/6/2013

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).