التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الذكاء الاصطناعي، لماذا ليس ذكيا؟

 -كريستوفر ميمس
ترجمة: لونيس باديس

شيء طريف يحدث فيما بين المهندسين والباحثين الذين يبنون الذكاء الاصطناعي بمجرد وصولهم إلى مستوى عميق من الخبرة في مجالهم. يستنتج البعض منهم - وخاصة أولئك الذين يفهمون ما يمكن للذكاء البيولوجي القيام به - أنه لا يوجد شيء "ذكي" في الذكاء الاصطناعي على الإطلاق.

يقول كيفين سكوت (Kevin Scott)، كبير مسؤولي التكنولوجيا في شركة مايكروسوفت (Microsoft): "أعتقد إلى حد ما أن الذكاء الاصطناعي هو اسم سيء لما نقوم به هنا" ويضيف "بمجرد أن تلفظ عبارة (ذكاء اصطناعي) لكائن انساني ذكي، فإنهم يبدؤون في تكوين ارتباطات حول ذكائهم، حول ما هو سهل وصعب بالنسبة لهم، ويقومون بتطبيق هذه التوقعات على أنظمة البرامج هذه".

قد يبدو هذا وكأنه نقاش أكاديمي بحت. ولكن، أيا كان ما نسميه، فمن المؤكد أن أكثر ما يهم "الذكاء الاصطناعي" هو الطريقة التي يحوّل بها بالفعل ما يمكن أن يبدو مثل كل صناعة تقريبًا على وجه الأرض؟ ناهيك عن إمكانية تشريد ملايين العمال في مهن تتراوح من ذوي الياقات البيضاء إلى ذوي الياقات الزرقاء، ومن المكتب الخلفي إلى النقل بالشاحنات؟

ومع ذلك، فقد فشل الذكاء الاصطناعي في الوفاء بالعديد من الوعود التي قدمها بعض أكثر المدافعين عنه صخباً - من خيبة أمل برنامج واتسون من شركة آي بي إم (IBM’s Watson) إلى التغير الدائم لتاريخ الوصول الى مركبات ذاتية القيادة.

الكلمات لها قوة. والأسماء، على وجه الخصوص، لها وزن. بشهادة خبراء التسويق والعلامات التجارية.  خاصة عند وصف أنظمة معقدة للغاية لدرجة أنها، في تفاصيلها على الأقل، خارجة عن فهم معظم الناس.

أدت التوقعات المتضخمة حول الذكاء الاصطناعي إلى انتكاسات فعلية في هذا المجال. ففي أوائل السبعينيات وأواخر الثمانينيات من القرن الماضي، تم تقديم ادعاءات مشابهة لتلك التي تم تقديمها في العقد الماضي - حول قرب ظهور الذكاء الاصطناعي على مستوى الإنسان - حول الأنظمة التي قد تبدو بدائية وفقًا لمعايير اليوم.

 لم يوقف ذلك علماء الكمبيوتر الأذكياء للغاية من صنعها، وأدت النتائج المخيبة للآمال التي أعقبت ذلك إلىما يمكن تسميته بـ "فصول الشتاء للذكاء الاصطناعي" التي جف فيها التمويل والدعم لهذا المجال، كما تقول ميلاني ميتشل (Melanie Mitchell)، باحثة الذكاء الاصطناعي والأستاذة في معهد سانتا في (Santa Fe Institute) مع أكثر من ربع قرن من الخبرة في هذا المجال.

لا أحد يتوقع شتاء آخر للذكاء الاصطناعي في أي وقت قريب. فعلى الصعيد العالمي، تم استثمار 37.9 مليار دولار في الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في عام 2021 حتى الآن، بوتيرة تكاد تصل إلى مضاعفة مبلغ العام الماضي، وفقًا لبيانات من (PitchBook)  وكان هناك أيضًا عدد من عمليات التخارج للمستثمرين في الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي وتطوره ، حيث بلغ حجم الصفقات 14.4 مليار دولار للشركات التي تم طرحها للاكتتاب العام أو تم الاستحواذ عليها.

لكن التشويش الذي يخلقه مصطلح الذكاء الاصطناعي يغذي دافع صناعة التكنولوجيا للادعاء بأن كل نظام يتضمن أقل قدر من التعلم الآلي مؤهل ليكون ذكاءً اصطناعيًا، وبالتالي يحتمل أن يكون ثوريًا. كما أن تسمية هذه الأكوام من الرياضيات المعقدة ذات المنفعة الضيقة والمحدودة "ذكية" تساهم أيضًا في الادعاءات الجامحة بأن "الذكاء الاصطناعي" الخاص بنا سيصل قريبًا إلى مستوى الذكاء البشري. وبالتالي فإن هذه الادعاءات يمكن أن تحفز جولات كبيرة من الاستثمار وتضلل الجمهور وصناع السياسات الذين يجب أن يقرروا كيفية إعداد الاقتصادات الوطنية للابتكارات الجديدة.

داخل المجال وخارجه، يصف الأشخاص الذكاء الاصطناعي بشكل روتيني باستخدام مصطلحات نطبقها عادةً على العقول. ربما يكون هذا أحد أسباب ارتباك الكثيرين بشأن ما يمكن أن تفعله التكنولوجيا بالفعل، كما يقول الدكتور ميتشل (Dr. Mitchell).

إن الادعاءات بأن الذكاء الاصطناعي سيتجاوز القدرات البشرية قريبًا بشكل كبير في مجالات متعددة - ليس فقط في مهام ضيقة جدًا - قدمها، من بين آخرين، كل من الرئيس التنفيذي لشركة  (Facebook)السيد (Mark Zuckerberg) في عام 2015، والرئيس التنفيذي لشركة (Tesla) السيد (Elon Musk)  في عام 2020 ، والرئيس التنفيذي لشركة (OpenAI) السيد (Sam Altman) في عام 2021.

رفضت شركة (OpenAI) التعليق، ولم ترد (Tesla)على طلب للتعليق، أما نائب رئيس (Facebook) المكلف بالذكاء الاصطناعي السيد (Jerome Pesenti) فيقول: إن شركته تعتقد أن مجال الذكاء الاصطناعي يكون نافعا بشكل أفضل من خلال أهداف علمية وواقعية أكثر، بدلاً من المفاهيم الغامضة مثل إنشاء ذكاء اصطناعي على المستوى البشري أو حتى ذكاء اصطناعي خارق. ويضيف: "لكننا نخطو خطوات كبيرة نحو تعلم المزيد مثلما يفعل البشر، وإنشاء المزيد من النماذج ذات الأغراض العامة التي تؤدي أداءً جيدًا في مهام تتجاوز تلك التي تم تدريبهم على القيام بها بشكل خاص." في النهاية ، يعتقد أن هذا قد يؤدي بالذكاء الاصطناعي إلى امتلاك "الحس السليم".

إن ميل الرؤساء التنفيذيين والباحثين على حدٍ سواء للقول بإن نظامهم "يفهم" إدخالًا معينًا - سواء كان غيغابايت من النص أو الصور أو الصوت - أو أنه يمكنه "التفكير" في تلك المدخلات، أو أنه لديه أي نية على الإطلاق، تعتبر أمثلة لما أطلق عليه درو ماكديرموت (Drew McDermott)، عالم الكمبيوتر في جامعة ييل ، نوع "الاستذكار التمنياتي" (wishful mnemonics). على أن صياغة هذه العبارة في عام 1976 تجعلها لا تقل قابلية للتطبيق في يومنا هذا.

يقول دارون أسيموغلو (Daron Acemoglu)، الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي تتطلب أبحاثه حول التأثيرات الاقتصادية للذكاء الاصطناعي تعريفًا دقيقًا للمصطلح: "أعتقد أن الذكاء الاصطناعي تسمية خاطئة إلى حد ما". ما نسميه الآن (AI) لا يحقق الأحلام المبكرة لمؤسسي هذا المجال - إما لإنشاء نظام يمكنه التفكير كما يفعل الشخص، أو لإنشاء أدوات يمكنها زيادة قدراتنا. ويضيف قائلا: "بدلاً من ذلك، تستخدم كميات هائلة من البيانات لتحويل المهام الضيقة جدًا إلى مشاكل تنبؤ".

عندما يقول باحثو الذكاء الاصطناعي إن خوارزمياتهم جيدة في المهام "الضيقة"، فإن ما يعنونه هو أنه مع وجود بيانات كافية، من الممكن "تدريب" خوارزمياتهم على تحديد قطة، على سبيل المثال. ولكن على عكس الأطفال الصغار، لا تميل هذه الخوارزميات إلى أن تكون قابلة للتكيف بشكل كبير. على سبيل المثال، إذا لم يروا قططًا في ظروف غير عادية - على سبيل المثال، السباحة - فقد لا يتمكنون من التعرف عليها في هذا السياق. كما أن تدريب خوارزمية للتعرف على القطط بشكل عام لا يزيد أيضًا من قدرتها على التعرف على أي نوع آخر من الحيوانات أو الأشياء وبالتالي فإن التعرف على الكلاب يعني البدء من نقطة الصفر تقريبًا.

لا ينبغي الخلط بين المبالغ الهائلة من الأموال التي تتدفق على الشركات التي تستخدم تقنيات راسخة للحصول على كميات كبيرة من البيانات ومعالجتها وبين فجر عصر الآلات "الذكية" التي لا تستطيع القيام بأكثر من مهام محدودة مرارًا وتكرارًا، كما تقول الدكتورة ميتشل (Dr. Mitchell). وتضيف أن العديد من المهام التي نسندها للآلات لا تتطلب هذا القدر من الذكاء، بعد كل شيء.

من جهته يصف السيد سكوت (Mr. Scott) الذكاء الاصطناعي بمصطلحات عادية مماثلة؛ عندما تنجز أجهزة الكمبيوتر أشياء صعبة على البشر - مثل أن تكون أفضل لاعب شطرنج أو لاعب Go في العالم - فمن السهل تكوين انطباع بأننا قد "حللنا" الذكاء، كما يقول. لكن كل ما أظهرناه بشكل عام هو أن الأشياء التي يصعب على البشر تكون سهلة على أجهزة الكمبيوتر، والعكس صحيح.

ويشير إلى أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي هي مجرد رياضيات. وإحدى وظائف الرياضيات هي تبسيط العالم حتى تتمكن أدمغتنا من معالجة تعقيداته المذهلة. يتابع قائلاً إن البرنامج الذي نسميه الذكاء الاصطناعي هو مجرد طريقة أخرى للوصول إلى وظائف رياضية معقدة تساعدنا على القيام بذلك.

(Viral Shah) هو الرئيس التنفيذي لشركة (Julia Computing)، وهي شركة برمجيات سحابية تصنع أدوات للمبرمجين الذين يبنون الذكاء الاصطناعي والأنظمة ذات الصلة. يتراوح عملاؤها من الجامعات التي تعمل على بطاريات أفضل للسيارات الكهربائية إلى شركات الأدوية التي تبحث عن أدوية جديدة.

يقول الدكتور شاه إنه يحب مناقشة كيفية وصف "الذكاء الاصطناعي" وما يعنيه ذلك بالنسبة لقدراته المستقبلية، لكنه لا يعتقد أن الأمر يستحق التوقف عند الدلالات حيث أن "هذا هو النهج الذي نتخذه" ثم يضيف "دعونا لا نتحدث عن الأسئلة الفلسفية".

بالنسبة للمستهلكين، تشمل التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي كل شيء؛ من التعرف على صوتك ووجهك إلى استهداف الإعلانات وتصفية خطاب الكراهية من وسائل التواصل الاجتماعي. وبالنسبة للمهندسين والعلماء، يمكن القول إن التطبيقات أوسع نطاقًا؛ من اكتشاف الأدوية وعلاج الأمراض النادرة إلى إنشاء أدوات رياضية جديدة مفيدة على نطاق واسع في الكثير من العلوم والهندسة. حيث في أي مكان يتم فيه تطبيق الرياضيات المتقدمة على العالم الحقيقي، يكون للتعلم الآلي تأثير.

يقول الدكتور شاه: "هناك تطبيقات واقعية تخرج من العلامة التجارية الحالية للذكاء الاصطناعي ومن غير المرجح أن تختفي هذه التطبيقات". "إنها مجرد جزء من صندوق أدوات العلماء: لديك أنابيب اختبار وجهاز كمبيوتر وتعلم الآلة"

بمجرد أن نحرر أنفسنا من القفص العقلي للتفكير في الذكاء الاصطناعي باعتباره شبيهًا بأنفسنا، يمكننا أن ندرك أنه مجرد كومة أخرى من الرياضيات يمكنها تحويل نوع من المدخلات إلى نوع آخر - أي البرامج (software).

في أيامه الأولى، في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كان هناك نقاش ودي حول ما يمكن تسميته بمجال الذكاء الاصطناعي. وبينما اقترح عالم الكمبيوتر الرائد جون مكارثي (John McCarthy) الاسم الفائز (الذكاء الاصطناعي)، اقترح مؤسس آخر لهذا التخصص اسمًا أكثر واقعية.

تقول الدكتورة ميتشل "قال هربرت سيمون (Herbert Simon) إنه يجب أن نسميه (معالجة المعلومات المعقدة)" وتضيف: "كيف سيكون العالم لو سمي ذلك بدلاً من ذلك؟"

المصدر: the wall street journal

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).