التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الخطر السوسيولوجي.. في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية

صَدرتْ في السَّنةِ المَاضيةِ ترجمةٌ عربيةٌ للكتاب المعنون بـ"الخطر السوسيولوجي" (LeDanger sociologique لصاحبيْه عالِميْ الاجتماع: جيرالد برونير(Gérald Bronner) وإيتيين جيان (Étienne Géhin)، الصَّادرِ عن دارِ النشر الفرنسية (Puf)، باريس، 2017، 252 صفحة. ترجمة موسومة بـ"الخطر السوسيولوجي.. في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية"، من ترجمة الباحث السوسيولوجي المغربي حسن احجيج، عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية - الدار البيضاء 2019، 253 صفحة.

يَسعى الباحثانِ في كتابهما المشترك هذا، إلى تحرير السوسيولوجيا مِن خطاب الحتمية الاجتماعيَّةِ الَّذي سكنها منذُ نشأتِهَا إلى الآنَ، حيثُ جعلَ من السُّوسيولوجيا خِطاباً إيديولوجياً ونضالياً أكثرَ منها خطاباً علمياً، انطلاقاً من نقد الأسس الإبيستيمولوجية والإيديولوجية لخطاب الحتميَّةِ الاجتماعيَّةِ (من دوركايم إلى بورديو) بغية خلخلته وتقويضه والكشفَ عن إيديولوجيته العمياء، بل العمل على إيقاظه من سباته الدوغمائي، وصولاً إلى الدِّفاع عن سوسيولوجيا تحليلية بديلة تقوم على أسس إبيستيمولوجية مغايرة: سوسيولوجيا فهمية - تفسيرية، الفرادانية المنهجية، العلوم المعرفية المعاصرة، الكفيل بتحرير السوسيولوجيا من خطاب الحتمية، وإعادة صياغة السوسيولوجيا على ضوء إبيستيمولوجي تحليلي، يأخذ بعين الاعتبار الإرادة الفعلية للفاعل الاجتماعي.
جاء الكتابُ الَّذي بين أيدينا في سياق سجالي حامي الوطيس في فرنسا الألفية الثَّالثة، حول سؤال أنطولوجي بالنسبة للسُّوسيولوجيا: ما الجدوى مِن السوسيولوجيا في ظل الشعور المتزايد بخطورة الحقل السوسيولوجي؟ صحيح أنَّ سؤال الجدوى هذا ليس جديداً، فطالما لازم السوسيولوجيا التساؤل الدَّائمُ عن مهمتها العلميَّةِ والمجتمعيَّةِ في كُلِّ لحظةٍ تاريخيةٍ. لكن راهنية السُّؤالَ والحالة هذه تتمثل في سياق: الخطر السوسيولوجي الَّذي يهدد وجود المعرفة السُّوسيولوجية في حدّ ذاتها، فأينَ يكمنُ هذا الخطرُ السُّوسيولوجي؟

أيّ خطر لأيّة سوسيولوجيا؟

يُلاحظُ برونير وجيان الانحسارَ المُستمرَّ الَّذي تشهده السوسيولوجيا في مختلف المجتمعات الأوروبية، في ظلِّ تزايد الأصوات المنادية هنا وهناك بإقصاء السُّوسيولوجيا أو تهميشها في بعض السَّياقات، وصولاً إلى الدَّعوة إلى استئصالها، ويأتي ذلك ضمن تزايد الشُّعور بخطورة هذا الحقل المعرفي على الأنظمة السَّياسيةِ، كمَا تصعّد هذا الخطاب النزعات المحافظة والأصولية التي زاد انتشارُها في العقود الأخيرة، إضافة إلى أنَّ التَّخويفَ من علم الاجتماع كان دائماً جزءاً من مقولات النزعات البراغماتية التقنية حيث تشير إلى عدم نفعيته، ومعها نجد نزعات عِلمية وضعانية تقول بلاعِلميته، وفي كُلِّ ذلك يبدو أن علم الاجتماع يدفع ثمن حسِّه النَّقديِّ من ناحيةٍ، وثمنَ الصورة النَّمطيةِ المكرّسة عنه مِن ناحيةٍ ثانيةٍ.
بحسب المؤلفيْن، لا يكمن الخطر السوسيولوجي في ما يسمى بـ"مشروع استئصال العلوم الاجتماعية" في حد ذاته، باعتبار أنَّ هذا المشروع ليس ضرباً مِن ضروب الأيديولوجيا الرجعية التي تعتمدها الأنظمة السَّياسيةُ التوتاليتارية فحسب، بل يحضرُ الموقفُ ذاتُه في الأنظمةِ الأكثر ديمقراطيةً، كما هو الحال بالنسبة إلى دولة أوروبية كسويسرا، أو كما هو الأمر في دولة آسيوية كاليابان.
ولا يكمن الخطرُ المحدق بالسوسيولوجيا ومجالات عديدة من العلوم الاجتماعية في هذه الإرادات الخارجية لاستئصالها فحسب، بل أيضاً هناك خطورةٌ تأتي من المعرفة السوسيولوجية ذاتها، حيثُ يشير المؤلفان إلى وجود عناصرَ تهديد لعلم الاجتماع موجودةً أيضاً في الخطاب المعرفي الَّذي ينتجه بنفسه، داخلَ أيّ خطاب سوسيولوجيٍّ؟ في صميم خطابُ الحتمية الاجتماعية، في صلب السُّوسيولوجيا الحتميَّةِ، تلك السُّوسيولوجيا التي تلبس لباساً نقدياً، تلك السوسيولوجيا التي تعلنها حرباً نقديةً تجاه المنظومة. هنا بالضبط يكمن الخطر السوسيولوجي.
ضدّ السوسيولوجيا الحتمية
لَيستْ السُّوسيولوجيا الحتميَّةِ في هذا السَّياق، أكثرَ ما ينعتُ عادةً في التُّراث السوسيولوجي بـ: السوسيولوجيا الهوليستية أو الشمولية، أو في مستوى آخر يصطلح عليها بـ: سوسيولوجيا الماكرو، بما فيها البنيويات والوظيفيات بمختلق أشكالها وألوانها. بأيِّ معنى هي سوسيولوجيا حتمية؟ إنَّها حتميةٌ بالمعنى الذي تدعو فيه إلى تعميم مقولة الحتميَّةِ الاجتماعية كخطاب يرادُ له أنْ يكونَ إيديولوجياً أكثرَ مِنهُ علمياً. إنَّنا أمامَ حتمية مزدوجة، تحملُ أكثرَ من وجهٍ واحدٍ، تحمل على الأقل وجهين أساسييْن: وجه إبيستيمولوجي، وآخر إيديولوجي. أما الوجه الإبيستيمولوجي فهو يتمثلُ في الإعلاء من قيمة المجتمع بوصفه منظومة قاهرة، على حساب تهميش الفردِ والفاعلِ الاجتماعي أو بالأحرى تقزيمهما. وأمَّا الوجهُ الإيديولوجي فيتجسدُ في الدَّعوةِ إلى النَّضالِ ضدَّ الهيمنةِ المفترضةِ للسُّلطةِ السَّياسيةِ والطبقات الاجتماعية المهيمنة. هنا بالضبط تكمن المفارقة: مفارقة خطاب الحتمية الاجتماعية في السوسيولوجيا، الَّذي يريد أنْ يجعل من السُّوسيولوجيا خطاباً حتمياً، ومناضلاً ضدَّ الحتميَّةِ الاجتماعية في نفس الوقت.
طالما قدمت سوسيولوجيا كهذه نفسها كسوسيولوجيا نقدية مما جعلها تنحرفُ إلى حدّ ما عن وظيفتها العِلميَّةِ، وهنا يحقُّ لنا أن نتساءلَ مع المؤلفيْن: هل نحنُ فعلاً أمامَ سوسيولوجيا نقدية أم إيديولوجيا مقنّعة؟ إنَّنا والحالةُ هذه أمام سوسيولوجيا مقنّعة أو لنقلْ أمام إيديولوجيا تتكلم باسم السوسيولوجيا، والحال أنها بعيدة كل البعد عن النقد الإبيستيمولوجي المطلوب، لهذا فإن الأمرَ يتعلق بنقد إيديولوجي أكثر منه نقداً إبيستيمولوجياً يُسائل هذه النزعة السوسيولوجية النقدية المزعومة.
لم يتوقف الباحثان عند هذا الحد، بل حاولاَ أن ينبّها أيضاً إلى خطر آخر، ألا وهو الانزلاقات الميتافيزيقية للعديد من السوسيولوجيين المعاصرين، خصوصاً ما يُعرف بسوسيولوجيِّي ما بعد الحقيقة، وهم اليوم الأبرز على الساحة. يتعلق الأمر هنا بأشهر أسماء علماء الاجتماع في فرنسا وغيرها من البلدان: إدغار موران وميشيل مافيزيولي، على سبيل المثال لا الحصر. فهما بحسبِ المؤلفين أقرب ما يكونان إلى ميتافيزيقييْن أكثرَ من كونهما سوسيولوجييْن، بما يحمل خطابهما من ترسيخ للحتمية الاجتماعية وعودة دائمة إلى الأب المفقود: إيميل دوركايم.
وعلى هذا النحو، فإن كتاب الخطر السوسيولوجي، يُعلنها حرباً سوسيولوجيةً وإبيستيمولوجيةً ضد كل خطاب ذو نزعة حتميةٍ اجتماعيةٍ، يرمي إلى أنْ يجعل من السوسيولوجيا خطاباً إيديولوجياً باسم العلم.
نحو سوسيولوجيا تحليلية
في مقابلِ خطابِ الحتميَّةِ أو بالأحرى السوسيولوجيا الحتمية، يقدم لنا الباحثان، بُعداً انتقادياً للأسس والمنطلقاتِ الَّتي يقوم عليها خطابُ من هذا النوع، وسوسيولوجيا من هذا القبيل، أو لنقل يقترحان علينا خطاباً لا حتمياً أو سوسيولوجيا لا حتمية. يتعلق الأمر ها هنا بسوسيولوجيا تحليلية. نعم، هي تحليلية من حيث الأسس والمنطلقات الإبيستيمولوجية التي تقوم عليها، موضوعاً ومنهجاً. بوصفها بديلاً لما ينبغي أنْ تكون عليه السوسيولوجيا: إعادة الاعتبار للفرد باعتباره فاعلاً اجتماعياً فعلياً، وليس مجردَ دمية في يد المنظومة أو باعتباره مجرد عميل.
إنّها سوسيولوجيا فهمية تفسيرية بالمعنى الفيبري للعبارة، تقوم على التأويل السوسيولوجي، ولا شيء غير التأويل. تأويلاً لا حتمياً، يمتاح من الحتمية الاجتماعية، ولا سيكولوجيا، يمتاح من أي نزعة سيكولوجية مزعومة كما يزعم أنصار الحتمية. ومن هذا المنطلق يُعلنها السُّوسيولوجيان: سوسيولجيا لا حتمية: تقومُ على التّقليد الفيبري وما يسمى بالفردانية المنهجية من ناحية، وعلى العلوم المعرفية والدماغية من ناحية ثانية. الكفيل بمجاوزة السوسيولوجيا لذاتها، من خلال مجاوزة -خطاب الحتمية الاجتماعية- الخطر الفعلي المحدق بالسوسيولوجيا. من هنا، نحو سوسيولوجيا تحليلة.
على ضوء ما يشهده العالم المعاصر من تعقيدات، سواء اتخذت صفة ما بعد -الحداثة أو صيغة ما بعد- الحقيقة، بما فيها الحقيقة السوسيولوجية -ما بعد الحقيقة السوسيولوجية- فإن السوسيولوجيا اليومَ أكثرَ من أي وقتٍ مضى توضعُ موضعَ تساؤلٍ مستمرٍ، توضع موضع أزمة، فيما يخص نفعيتها والجدوى من وجودها من جهة، ومدى علمية روحها النقدية من جهةٍ أخرى. خاصة وأننا نشهد اليوم نماذجَ من السوسيولوجيا تلوح في الأفق: سوسيولوجيا ذات طابع ميتافيزيقي، وسوسيولوجيا ذات طابع حتمي، والأسوأ من هذا ظهور سوسيولوجيا تقنية، بعيدةً كُلَّ البُعدِ عن المهمةِ العلميةِ للسوسيولوجيا، المتمثلة في الفهم العلمي للوقائع والأفعال الاجتماعية التي باتت اليوم أكثر تعقيداً مما مضى، وبالتَّالي أحوج إلى السوسيولوجيا أكثر مما مضى. أحوج إلى أيّة سوسيولوجيا؟ إنَّنا في حاجة إلى سوسيولوجيا تأوليةٍ؛ سوسيولوجيا تحليليةٍ.

المصدر: مجلة الرافد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).