التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الميديا وتجليات النقد "للذات الأكاديمية" المتعالية عن النقد،،، الأستاذ الجامعي في مواجهة إعصار النقد الفايسبوكي المتطرف.

د. حجام الجمعي

جامعة أم البواقي


أتصور أن من بين الأوهام المترسبة في العقل الأكاديمي والذي يعتبر من أهم العوامل الكابحة لحركية نمو وتطور الجامعة الجزائرية "استمرار وهم تعالي الذات الأكاديمية عن النقد" ولقد تراكم هذا الوهم بشكل أسطوري وعابر للأجيال لدرجة يبدو أن النقد مضى إلى حتفه في فضائنا الأكاديمي فاسحا المجال وفاتحا كل الأبواب لتدفق موجات الاطراءات والمجاملات. لدرجة أن تحول كل محاولة لبناء سلطة الخطاب النقدية تجاه الرجل الأكاديمي يدرجها الأكاديميون أنفسهم ضمن باثولوجيا جلد الذات.

 ولقد تفاوت التوصيف النقدي للحضور الثقافي الباهت أو لنقل للأداء الهزيل والسلبي للنخب العلمية عامة وللأساتذة الجامعيين خاصة بمختلف رتبهم ، وتناولت الكثير من البحوث والدراسات العلمية والمقالات الصحفية مختلف زوايا وأبعاد هذا النقد، لكنه لم يخرج عن أطره المؤسساتية وعن طابع العمومية والتجريد بدل التشخيص وفرض العلاجات الضرورية. لكن ظهور الميديا الجديدة بوسائطها الاتصالية المتعددة أخرجت النقد من أطره التنظيمية والمؤسساتية والقانونية وحتى الرسمية (مجلات علمية، صحف، ملتقيات) لترمي به إلى الفضاء السيبيري الرحب حيث لا سقف للحرية ، وفي هذا الفضاء الميدياوي الجديد يتدفق النقد المكثف للاختلالات الوظيفية للأساتذة الجامعيين وضعف إسهامهم في الإنتاج العلمي وفي إنتاج الوعي الاجتماعي وضعف إسهامهم حتى في إنتاج الوعي بقيمتهم الوجودية سواء في الجامعة أو كذوات مفكرة ومنيرة للجوانب المظلمة للمجتمع .
ولو حاولنا فهم هذه المحاولات النقدية المعزولة نجدها أنها تتفاوت حدتها بين الموضوعية العلمية والذاتية المشبعة بالمزاجية . ورغم ضرورة التسليم بأن النقد العلمي منصفا ويدفع إلى تطوير بناء الذات الأكاديمية بربط النتائج بمسبباتها وتبني مقاربات علمية تقترب من التشخيص والتوصيف لباثولوجيا الانحباس للعقل الأكاديمي الجزائري -الذي تحول فيه الاجتهاد إلى استثناء والإنسحاب واللاوظيفية إلى قاعدة- وبمناهج وأدوات علمية. بهدف الخروج عن دوغمائية "التماهي السياسي" بأدوار الجامعة وإسهاماتها في عمليات التنمية رغم "حالات الانحباس التي تعاني منها" ، ومحاولة انتشال واجتثاث الأكاديمي من مجموع الأوهام التي تكبله وتخنق روحه العلمية وتمنع آية عملية لتشابكها مع الواقع السوسيوثقافي والسياسي لبيئة الحياة. فالأكاديميون يكتفون اليوم بأدوار ثانوية تقتصر في الكثير من الأحيان على التدريس ، وينزعون نحو المزيد من العزلة وينفرون من العالم الاجتماعي ومن عالم الجامعة ويفرون إلى العوالم الذاتية ويتفننون في الغوص والتعمق في تضاريس جغرافيا الذات ومجاراة الطموحات الذاتية وإشباع حاجات النفس اللامتناهية كتعويض عن حالات الحرمان واستمرار التهميش السياسي والازدراء الاجتماعي والتغييب الثقافي.
فحال الكثير من الأكاديميين تعبر بصدق عن حالات الهروب والتخلي عن الالتزامات الاجتماعية النفعية والانسياق وراء الالتزامات الشخصية والعائلية الانتفاعية. تحت طائلة استحضار مجموعة من التبريرات المادية طبعا. هذا الوضع الذي يكبح أي جهد لتطوير الجامعة ، أخرج بعض الباحثين الأكاديميين عن صمتهم ليمارسوا وعبر الميديا الجديدة وبالخصوص الفايسبوك الجهر البواح وبعبارات عنيفة وربما قد يعتبرها البعض متطرفة تنديدا واستنكارا للوضع القائم ولحالة الستاتيكو التي يقبع فيها الأستاذ الجامعي الذي يكتفي بدور المتفرج وأحيانا المفعول به فيما يحدث ، نقد يجمع بين الجرأة والانفعال يمكن توصيفها بالموضوعية المتطرفة ، فبعدما انتقد البروفيسور العربي فرحاتي وفي سياق إعلانه عن خروجه للتقاعد النسق المؤسساتي الذي أنتج نخب علمية في شكل كائنات بيولوجية تفتقد لجوهرها الثقافي والمعرفي (أستاذ بيولوجي ، طالب بيولوجي) ، يلتحق البروفيسور عبد الغاني مغربي الذي كتب في صفحته على الفايسبوك متسائلا بحيرة "كثر الدكاترة بصفة مدهشة في الجامعة وخارجها ، غير أن الثرثرة ، البلادة والشعوذة لم تتقلص بل العكس يا ترى لماذا". لكن لم يقدم تصوره السوسيوتاريخي للحلول الممكنة لهذا التدهور .
 ويذهب البروفيسور كمال مهنانة أبعد في نقده (المتطرف) للجامعة وللأساتذة الجامعيين في تعليقه على منع البروفيسور ناصر جابي من إلقاء محاضرته بجامعة باتنة حول الهوية الأمازيغية بمناسبة يناير، إذا قال حرفيا " لم يبق من الجامعة إلا اسمها ، لقد ابتلعت البيروقراطية كل مبادرة حية وخاصة في الجامعات القروية (.....) كلها عبارة عن ثانويات كبيرة ، تغلق على الرابعة مساء ويتنافس فيها الإداريون على القوادة للسلطة والمزايدات الوطنية ، وهو سبب المنع" . ويضيف "الجامعة لم تعد سوى مكان الامتيازات المادية للأستاذ ومن يريد ان يصنع إسما عليه بالعمل مع جهات أخرى خارج البلد". هذا الخطاب بصيغته التعميمية والمشحون بقيم العنف والتهكم من الأساتذة الجامعيين ، أثار جدلا "صامتا" في أوساط الكثير من الأساتذة الجامعيين ، وخلف موجة استياء كبيرة وفيهم من اعتبره إهانة ، لكنهم رفضوا الرد عليه ومناقشته في صفحته ، واكتفوا بالتنديد البيني في شكل مونولوج حوار الذات. ونفس الشيئ يحدث مع كل الصفحات المثيرة للجدل حول قضايا الجامعة وقضايا الأساتذة الجامعيين ، حيث يفضل أغلبية الأساتذة الجامعيين الرفض الصامت وعدم خوض النقاشات.
يحدث هذا النقاش في الفضاء السيبيري الفايسبوكي أساسا، في الوقت الذي لا تشكل الجامعة أي شيئ في سلم اهتمامات القنوات التلفزيونية التي لا تتكلم عن الجامعة إلا في صيغ الإثارة والتهويل والمتاهات بينما تتغافل وتتجاهل القضايا الفكرية والعلمية الكبرى،، بينما تتهافت وتفرط في الإهتمام بكل الفضائح وبأخبار الجريمة وإعادة تمثيلها وإنتاجها في تمثيليات استعراضية لا فائدة من ورائها ، وربما قد تراكم فعل الجريمة وتبرر هذا الجنوع بفعل الاشهار المجاني للأعمال الإجرامية وإكساب ألقاب الزعيم "زعيم العصابة" أو البطل "بطل الجريمة". لكن ومهما بلغ السخط والغضب من هذه الانتقادات الجريئة والجارحة للضمير الأخلاقي الأكاديمي الجمعي والمنتظمة في الفضاء الفايسبوكي ، إلا أنها يمكن إدراجها ضمن المؤشرات الإيجابية والصحية وما يجب أن يكون ، لأن واجب المثقف الحقيقي هو تحريك المياه الراكدة كما يقول إدوارد سعيد ، وقد تكون مثل هذه الجمل القصيرة المشحونة بجرعات نقدية زائدة ومتطرفة أحيانا تبعث الروح في الكثير من الضمائر الميتة التي لا تشغلها القضايا العامة والإنشغالات الكبرى للمجتمع بدر ما يشغلهم "ما يتم ضخه في الحسابات الجارية والبنكية" ، ويدفع خاصة بالجيل الجديد من الأكاديميين نحو الكثير من البذل والعطاء والإنتاج العلمي والاجتهاد للانفتاح أكثر على البيئة الاجتماعية ، ومحاولة إصلاح الاختلالات الذاتية. لكن يجب التأكيد على ما يسميه هابرماس أخلاقيات التواصل " بمعنى يجب أن تبقى النقاشات المثيرة والنقد المنتج في أطره الأخلاقية والاحترام التام للآراء والأفكار التي تصدر من أي كان ومقارعتها بالحجة والمنطق بغية الإسهام في بناء فضاء عمومي عقلاني متسامح ومعادي للعنف والتطرف . واستثمار كل حالات التكهرب والصراعات الفكرية لتوليد النور ومحاصرة الظلام ومزاحمته إلى آخر تخومه.
ويمكن التأكيد في هذا السياق أن استمرار الحكومات المتعاقبة في بذل الجهود وبشكل انفرادي في تطوير الجامعة وتحسين تكوين الأساتذة الجامعيين ، ومهما كانت الإمكانيات المسخرة ستنتج وتعيد إنتاج الوضع القائم ، وأن رهان تجويد الأداء الأكاديمي والرفع من تنافسية المؤسسات الجامعية يتطلب بناء استقلاليتها والتأسيس لسلطتها النقدية ومنه التأسيس لسلطتها العلمية والمعرفية والمنفتحة على البيئة بأفكارها المنتجة للقيم المضافة الابتكارية.
خاصة وأن انبعاث الحركية الفكرية وديناميات السلطة النقدية للعقل الأكاديمي الجزائري جد ممكنة في ظل تواجد خزانات الأفكار الكامنة والتي حجبتها مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية ، وحرمت المجتمع من الاستثمار الأمثل فيها. وربما لا تتطلب إلا توفير بيئة حرة وحوافز مادية لإقامة النوادي الإبداع الثقافية والعلمية تنصهر فيها الإختلافات وتتفجر فيها الأفكار والابتكارات ، وتقديم المزيد من الدعم والتشجيع لمخابر البحث وانتشالها من سلطة البيروقراطيين ، لتقليص المسافات بين الأكاديميين وانتشالهم من نزعتهم الانفرادية وعوالمهم المعزولة وجعل حياتهم تنبض بحياة المجتمع والدولة.
وفي الأخير أتصور أن بداية النهاية لأزمة الجامعة تبدأ بنهاية عقدة التعالي للأستاذ الجامعي ونهاية تنصيب نفسه وصيا على أفكار الآخرين وحارس للقيم والأخلاق في المجتمع، وتعريض نفسه للنقد والمساءلة ليساهم في هدم وهم "تعالي الذات الأكاديمية للنقد" والتأسيس للسلطة النقدية الأكاديمية كقوة أولى محركة لسلطة الجامعة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).