التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كيف هدمت الحلقة الأخيرة كل ما بناه مسلسل "Game of Thrones"؟


مها فجال

ليست "لعبة العروش" كغيرها من الألعاب، فالفائز يربح كل شيء، والخاسر يفقد حياته. لكن، ولأن جاذبية السلطة لا تُضاهى، شاهدنا عشرات الشخصيات تدخل أرض الملعب، وتجر وراءها لاعبين آخرين، بعضهم أتى بملء إرادته، وبعضهم سحبه مصيره للحلبة، لكن الكل قاتل بشراسة، إن لم يكن للفوز، فللبقاء. خسر البعض منذ البداية، وانتصر البعض في جولات لتضع جولة أخرى لدوره، وحياته، النهاية. ولأن الألعاب لا تدوم للأبد، كان على "لعبة العروش" أيضا أن تصل إلى نهاية. وبعد ثماني سنوات شاهدنا فيها شخصيات أحببناها وأخرى كرهناها تتصارع حتى الموت، كان أن جاء وقت الحسم البارحة في آخر حلقات المسلسل.

لم يعوّدنا "صراع العروش" قط على وجود شرير مطلق يصطف ضده المشاهدون جميعا، إلا أن الموسم الأخير بدا في قبضة قوة واحدة استطاعت استقطاب كراهية جماهير المسلسل بشكل غير مسبوق تقريبا، إنها الكتابة السيئة. فعوضا عن تورط المشاهدين عاطفيا مع الشخصيات ومصائرها كما اعتدنا في المواسم السابقة، بدا تركيز الجمهور في هذا الموسم منصبا على الكتابة، التي أتت، على أفضل الأحوال، ركيكة.
لم تهرب آخر حلقات المسلسل من لعنة الموسم الثامن وكتابته السيئة، فجاءت امتدادا لكل ما شابه من عيوب، وكذا لاحقها ما تبع معظم حلقات الموسم من غضب جماهيري، عبّر عنه المشاهدون في سخريتهم اللاذعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتقييمهم للحلقة على موقع "IMDb" بـ4.5 من 10، التقييم الأدنى في تاريخ المسلسل بفارق شاسع. فلماذا كانت حلقة "صراع العروش" الأخيرة محبطة لهذا الحد؟ وكيف بدت خيانة لكل ما بناه المسلسل من قبل؟

ديكتاتورية الحبكة

إذا كان علينا أن نشير بإصبع الاتهام إلى عامل واحد يُشكّل السبب الرئيسي لتدهور الموسم الأخير، فسيكون ديكتاتورية الحبكة. فكأي ديكتاتور عنيد، بدت الحبكة في هذا الموسم تتصرف بلا منطق، تمضي في حال سبيلها دون أن تعطي أي وزن لا لتطور الشخصيات ولا لمنطق الأحداث. فالحبكة التي يحرك خيوطها دافيد بينوف ودي بي ويس لا تسير سوى صوب هدف واحد، أن تنتهي، وحتى تصل للنهاية، أي نهاية، لم يجد المؤلفان غضاضة في دهس الشخصيات وجعلها ليست أكثر من محاكاة سيئة لذاتها، ومعاملة المنطق الرابط للأحداث كشيء ثانوي لن يلاحظ غيابه أحد.
ويعود ذلك بدوره للوقت القليل بشدة الذي أفرده الكُتّاب للنهاية؛ فبعد أن كان تطور الأحداث والشخصيات يُفرد لهما مواسم بأكملها، تحدث في هذا الموسم تحولات سريعة غير منطقية للقصة في غضون بضعة مشاهد، وأحيانا بضع ثوانٍ؛ قد رأينا النتائج الحزينة لكل ذلك في حلقة "العرش الحديدي". ففي الدقائق الأولى للحلقة، عوضا عن أن نحصل على معلومة جديدة ونعرف أي سبب مقنع لتحول دينيرس المفاجئ في الحلقة السابقة من كاسرة الأغلال إلى حارقة الأطفال، تكتفي الحلقة بالمرور على الخراب الذي جرته على كينجز لاندينج، ذلك الخراب نفسه الذي قضينا قرابة الساعة نشاهده في الحلقة السابقة. هكذا، تكتفي المشاهد الأولى بتكرار القديم بلا جدوى.
وفي الحوار الذي يجمع جون سنو وتيريون في بداية الحلقة، يستميت جون، الذي رأيناه دائما يقف في صف الحق والعدالة والأبرياء، في الدفاع عن دينيرس بعد أن شاهد بأم عينيه قدر الدمار الذي ألحقته بالمملكة، ويتمم بالجملة التي بات يكررها في هذا الموسم بشكل أثار سخرية المتابعين: "إنها ملكتي". حوّلت الكتابة ذكاء جون وقدرته على الاستيعاب إلى قدر من الضحالة بات معها في حاجة إلى كلام تيريون، الذي لم يفعل شيئا سوى إقرار الحقائق، حتى يعرف كيف أن دينيرس باتت تُشكّل خطرا على الجميع. وبعد دفاعه عنها بمشهد واحد، نراه في المشهد التالي يقتلها.
وبمثل سرعة تحوّل وجهة نظر جون سنو حيال دينيرس، يتحوّل اجتماع سادة ويستروس في المشهد التالي من مناقشة مصير جون سنو إلى مناقشة مصير الممالك السبعة، وفي غضون بضع دقائق، يحدث ما عجز أبطال القصة في سبعة مواسم عن تحقيقه: يتم تحديد الملك، وتغيير نظام الحكم، وانفصال مملكة الشمال، كل ذلك برضى الجميع دون أي صراع يُذكر. لكن لم يكن هذا أسوأ ما في هذا المشهد، ففيه وفي التتابع الذي تلاه، نجد هدما لكل ما بناه المسلسل في ماضيه، وانقلابا على كل ما كان يرمز إليه في ذهن محبيه[1][2]  

العجلة ما زالت تدور

طالما تحدثت دينيرس عن تحطيم عجلة السلطة التي ما زالت تدور وتطحن تحتها الضعفاء، وإحلالها بحكم عادل رحيم. بالنسبة لعالم "صراع العروش"، فمفهوم تحطيم العجلة بدا مفهوما ثوريا للغاية، يحمل بذرة تغيير شامل للأفضل. تلك البذرة نفسها حملها مسلسل "صراع العروش" بالنسبة للدراما. فعندما أُذيع لأول مرة على الشاشات منذ ثماني سنوات، كان هو أيضا يكسر عجلة ظلّت تدور طويلا.  
لم يستمد "صراع العروش" في المواسم الأولى قواعده قط من عالم الدراما الهش، حيث يوجد خير واضح وشر واضح وخط فاصل بينهما، وأبطال ينتمون للخير وأشرار ينتمون للشر يتصارعون صراعا نعرف نهايته المحسومة منذ البداية. استمد المسلسل بدلا من هذا قواعده من عالمنا نفسه، حيث تختفي غالبا درجات الأبيض والأسود الصارخة، ويسبح كل شيء في بحر من الرمادية. وفي وسط هذا، لا يحرك الشخصيات، كما لا يحركنا في حياتنا، صراعات خاوية حول كلمات فضفاضة مثل "الخير" و"الشر"، بل تحرّكهم رؤاهم للحياة و دوافعهم الإنسانية ورغباتهم الدفينة، كل تلك الأشياء التي يمليها عليهم تكوينهم الشخصي. ولأن الرؤى والدوافع والرغبات حيال الأشياء نفسها تتفاوت بشكل قد يصل للتضاد من شخص لآخر، يولد الصراع.
رأينا نماذج كثيرة على هذا طوال الأحداث، فسيرسي شخصية تحركها الرغبة في البقاء مُسيطرة بأي ثمن وبأي طريقة، ونيد ستارك شخصية يحركها إيمانها بعالم عادل ينال فيه المخطئ جزاءه أيًّا من كان. في الموسم الأول، تصارعت الرؤيتان، ولأن سيرسي تحلت بما يكفي من الدهاء لتبقى لها اليد العُليا، انتهى الموسم ورأس نيد ستارك، بطل المسلسل حتى تلك اللحظة، مثبت أعلى حربة، وابن سيرسي يجلس على العرش. هنا، تحركت الشخصيات وفقا لقناعاتها ودوافعها، وتحركت الأحداث وفقا لمنطقها الداخلي، دون أن تملي عليها سُلطة الكاتب منطقا خارجيا يلوي عنق القصة حتى يتحقق انتصار مصطنع لمن نراه خيّرا على من نراه شريرا.
بعد ثماني سنوات، وفي الحلقة الأخيرة من المسلسل، تم نسف كل هذا. ففي مشهد المجلس، يبدو وكأن الشخصيات قد تركت دوافعها وصراعاتها على الباب قبل الدخول. فبعد إلقاء تيريون لخطبة حول أهمية القصص بالنسبة للناس، يقترح أن يصير بران هو الملك، لا لشيء سوى لأن قصته هي الأفضل، ويوافق الكل بوداعة. وتطالب سانسا أن ينفصل الشمال دونا عن غيره من الممالك وينال حكما ذاتيا، ولا يعترض أحد.
يقول عن هذا المشهد الناقد زاك بوشامب: "قضى "صراع العروش" سنوات يفكك فيها أي رؤية رومانسية للسياسة، ويشير إلى كل الطرق التي تجعل عاملي المصلحة الذاتية والأيديولوجيا الشخصية يقفان في طريق الوصول لحلول وسطى، ويؤديان أحيانا إلى الحرب. وبالرغم من هذا، تأتي نهاية الصراع الطويل من أجل السيادة بأكثر الطرق اصطناعا، فيوافق كل السادة على ملك جديد، بلا أي جدال، فقط لأن تيريون قال بضع كلمات منمقة عن القصص".[3]
ظهر في مشهد المجلس شخصيات كثيرة هامشية لم نقض معها الكثير من الوقت لنفهم دوافعها، لكننا نعرف الكثير مثلا عن شخصية يارا جريجوي، وقد أتى هذا المشهد مناقضا لكل ما بناه المسلسل سابقا عنها وعن تاريخ عائلتها. فلطالما أرادت عائلة جريجوي الانفصال بجزر الحديد عن المملكة، وحاربوا من أجل هذا طويلا عدّة ملوك، ومن ثم يصير من غير المنطقي رضوخها لانفصال الشمال دون انفصال جزر الحديد بلا أي اعتراض. وبالمثل، نعرف الصراعات التاريخية لدورن مع المملكة، ومن ثم كان من الأولى بأميرها الجديد أن يطالب هو أيضا كسانسا بانفصال مملكته. هنا، تم التضحية بدوافع الشخصيات التي كانت ستؤدي إلى صراع منطقي فقط للوصول سريعا إلى النهاية.  
لم ينقلب المسلسل على نفسه في تلك النقطة فقط، بل صار ينحو بشكل متزايد في حلقته الأخيرة نحو الفصل بين الخير والشر في معسكرات منفصلة، ليعيش الأخيار في سعادة، ويلقى الأشرار ميتات نكراء. فبعد مشهد المجلس، نشاهد تتابعا يبدو كما لو أنه هبط على "صراع العروش" من مسلسل آخر، نرى فيه كيف يعيش الجميع في سرور، بعد أن وصل الكثير منهم إلى مناصب لا يستحقها -برون صار وزير الاقتصاد، سام الذي لم يكمل دراسته في القلعة يصبح حكيم كينجز لاندنج- فقط لأن الكُتّاب أرادوا أن يُكافئوهم بها. وحتى مشهد المجلس وتتابع النهاية لم نصل إليهما سوى عبر المزيد من الأحداث الملفقة. فلا نعرف مثلا لماذا ترك جراي وورم، محارب دينيرس المخلص حتى النهاية، تيريون وجون سنو أحياء، بعد أن تآمر الأول عليها وقام الثاني بقتلها. [4]
في مواسم المسلسل الأولى، أخذت "لعبة العروش" تدور دورتها، لم نكن نعرف من سيفوز بالعرش، لكننا على الأقل كنا على يقين أننا كمشاهدين قد ربحنا مسلسلا أخذ يكسر قوالب السرد التقليدية ببراعة، ويقدم لنا شيئا مميزا لم نعهده من قبل. أما الآن، وبعد موسم أخير أخذ يطرق كل الطرق المعهودة ويدور في فلك كل ما كان قد انقلب عليه، فلا يهم حقا من فاز بالعرش، فقد خسرت الملحمة فرصتها في كسر عجلة الأنماط التقليدية وباتت في النهاية أسيرة لها.

المراجع:

مصدر المقال: موقع ميدان 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).