التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نصرالدين لعياضي يكتب: الحراك الجزائري والفايسبوك.. بين ماكلوهان ومروزوف

 نصر الدين لعياضي

 يطرح الحراك الشعبي الجزائري ضرورة استئناف النقاش حول العلاقة بين الحركات الاجتماعية الواسعة ومواقع التواصل الاجتماعي ومساءلتها. النقاش الذي بدأ مع أحداث ” الربيع العربي”. وافرز اتجاهين أساسيين : الاتجاه الأول راح يبحث عن  الجذور “الرقمية” لهذه الأحداث مستأنسا  بأطروحات الفيلسوف الكندي، مارشال مكلوهان، التي تؤمن بالدور الحتمي للتكنولوجيا،  باعتبارها امتدادا لحواس الإنسان، في تَشكُّل الدولة المركزيّة، وإحياء القوميات، واندلاع الحروب. ومنها انطلق هذا الاتجاه في تضخيم قدرة شبكة الانترنت على تحرير الأشخاص من الأنظمة الاستبداديّة. وحجته في ذلك أن إزاحة الرئيسين: زين العابدين بن علي وحسني مبارك عن سدة الحكم ما كانت أن تتحقق لولا موقعي التواصل الاجتماعي: الفيسبوك وتويتر.

والاتجاه الثاني، استند إلى تصور يفغيني مروزوف، الكاتب الأمريكي من أصول بيلاروسية، وأستاذ بجامعة ستانفورد، الذي قلّل من دور مواقع التواصل الاجتماعي في النضال الديمقراطي والثوري إلى حدّ تهميشه. وراح يبحث عن حججه في ” الانتفاضات ” الشعبيّة” التي جرت في أكثر من بلد، بدءًا بــ “مولدوفا، مرورا بأوكرانيا، ووصولا إلى إيران في يونيو/ جوان 2009. فتعجب كيف نسمي ” الأحداث التي شهدتها هذه البلدان بثورة تويتر أو الفيسبوك، ونؤكد في الوقت ذاته أن حكامها حرموا مواطنيهم من الاتصال بشبكة الانترنت في أحيان كثيرة، وراقبوا المحتويات المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحقوا نشطاءها! ويذكر أن طلب تأجيل صيانة موقع شبكة تويتر الذي تقدمت به حكومة أوباما إلى مديره يوم 15 يونيو/ جوان 2009 من أجل اتاحة الفرصة للإيرانيين لاستخدامه في حراكهم الشعبي، لم يؤد سوى إلى زيادة عدد التغريدات التي أُرْسِل أغلبها باللغة الإنجليزية من خارج إيران!
يمكن ايجاز رؤية مروزوف للعلاقة القائمة بين “الانتفاضات” الشعبيّة ومواقع التواصل الاجتماعي في القول أنه من الصعوبة بمكان أن تترجم العلاقات الاجتماعية التي تُبْنَى عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى أفعال ونشاطات جماعيّة في أرض الواقع.
قد يتساءل البعض: كيف خرج آلاف الجزائريين في مسيرات في شوارع كل المدن الجزائرية، تقريبا، في يوم واحد، والتوقيت ذاته استجابة لنداء “مجهول” في موقع الفيسبوك؟  بصرف النظر عن خلفيات هذا السؤال، فإنه يقودنا إلى طرح سؤال أخر : لماذا لم يخرج الجزائريون بالآلاف للتظاهر في الشوارع يوم 12 جانفي/ يناير 2011، أي في عز “الربيع التونسي” عندما وُجِه لهم نداء مماثل عبر الفيسبوك ؟
يصعب الفصل بين الواقعي والافتراضي في الحراك الجزائري. فخروج ملايين الجزائريين إلى الشارع  منذ 22 شباط/ فيفري الماضي هو وليد تراكمات من النضال والإحباط والغضب التي تجسدت في سلسلة من الاضرابات والاحتجاجات ذات الطابع الثقافي: مثل أحداث ” الربيع الأمازيغي” التي كانت تطالب بالاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية ووطنية، و ذات الطابع المهني: إضراب الأطباء المقيمين الذي استمر لعدة شهور، وذات الطابع الاجتماعي: مسيرات متقاعدي الجيش الوطني الشعبي، وحركة البطالين في الجنوب الجزائري، ومسيرة المعلمين المستخلفين، وغيرها من الحركات الرافضة لارتفاع أسعار المواد الأساسيّة والمطالبة بالحق في السكن، وإصلاح الطرقات، وتوصيل الغاز الطبيعي إلى سكان القرى. ورغم حرص هذه الحركات على طابعها غير السياسي إلا أنها جوبهت بالحصار الإعلامي والعنف اللفظي والجسدي. وبتزايد عددها بات الاعتقاد راسخا أن لجوءها إلى الاعتصام واحتلال الشوارع والساحات العامة أضحى أسلوب اتصال سياسي بامتياز أمام انسداد قنوات الاتصال المعروفة !
أمام اتساع عملية إقصاء قطاع واسع من الجزائريين، من مختلف القناعات السياسيّة والأيديولوجية ، من مختلف الهيئات المنْتَخَبة ، وأمام احتكار الفضاء العمومي وإفراغ النشاط السياسي من محتواه لم يبق أمام الشباب الجزائري سوى ملاعب كرة القدم للتعبير عما يعانون من ظلم وضنك العيش، وتعسف في استخدام السلطة وتلاعب بالقوانين عبر الأهازيج . والتوجه الجماهيري إلى الفضاء الافتراضي للإفصاح عن سخطهم على الوضع عبر أغنيات الراب، ونشر الصور التي تُكذّب الخطاب الرسمي، والوثائق التي تثبت حالات الفساد والرشاوى. فقادت ناشريها إلى السجن. والسخرية من رغبة الرئيس السابق، العاجز عن الحركة والكلام، في أن يستمر في السلطة بعد عشرين سنة من الحكم. السخرية بالرسم الكاريكاتوري والنكت والأشعار. لكن نعتقد أن ترشُّح بوتفليقة لعهدة خامسة كانت القطرة التي ملأت كأس الغضب فانهمر في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي.
أمام انصراف وسائل الإعلام الرسمية إلى التعتيم الإعلامي على المسيرات الشعبية الأولى، وارتباك وسائل الإعلام الخاصة في تغطيتها. قامت “وسائل الإعلام الفردية الجماهيرية” Self Mass media  بدور أساسي في إعلام الجزائريين عن مسيرات يوم الجمعة من خلال نقلها مباشرة بالصوت والصورة عبر موقع الفيسبوك. وبهذا ربطت الحراك الشعبي بالفضاء الافتراضي.  وقامت بتوجيهه للحفاظ على طابعه السلمي.
لقد  عزّزت مواقع التواصل الاجتماعي شعور الجزائريين بالانتماء إلى الوطن. وجعلتهم يكتشفون ذاتهم بعد سنوات من الرعب والخوف واليأس. فأدركوا أنهم يشكلون وحدة في التنوع. هذا ما يعبر عنه التحليل السيميائي للصور، وصور ” السيلفي” Selfie، الملتقطة من قلب الحراك، والمتداولة عبر مواقع الفيسبوك واليوتيوب والواتسات، وفيبر. إن هذه المواقع ليست أرضيات شخصية فقط، بل جماعية أيضا، لأن الجزائريين لا يترددن في عرض ما يصلهم من صور وشعارات ونكت وأغان وأشعار عبر حسابهم الخاص في هذه المواقع على أفراد أسرهم غير المتصلين بشبكة الانترنت أو أنهم غير مشتركين في هذا الموقع. علما أن نصف الجزائريين تقريبا لا يملك اشتراكا فيه.
غني عن القول أن مواقع التواصل الاجتماعي توسع مجال المرئي وتجعل ما هو مرئي مقروءا، على حد قول الباحث “فرنسوا جوست”. وتُمَكّن المهمشين اجتماعيا والمقصيين سياسيا من انتزاع الحق في الاعتراف. فالسياسة في هذه المواقع تضاعف وجودها وتعدّد أشكال تمثيلها. لقد جعلت هذه المواقع مسيرات الجمعة استعراضا وفُرْجَةَ. والفرجة ليست “مشاهدةُ ما يُتَسلَّى به” فحسب، بل إنها أيضا ” انكشاف الهم” وانفلات عن معايير وأشكال التعبير والاتصال، وتملُّك حق القول بصوت مرفوع، والخروج عما هو امتثالي ومفروض من قبل النظام السياسي.
تتسم مواقع التواصل الاجتماعي بسعتها غير المحدودة فيتملّكها من يجنح إلى المزايدة على الحراك الشعبي، ويمارس التضليل والتشهير ، ويُشكّك في نوايا الكل. وهناك من يسلط هذه المواقع لهذه الغايات ولو بدس الأخبار المزورة. وخطر هذا التملُّك تكمن في تناغم ذهنيّة الجزائري ، وربما العربي،  مع  خصائص بعض مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح، بل تسعى، إلى الإحماض الذي يعني الافاضة فيما يؤنس الفرد من الحديث والكلام.  والإحماض الرقمي يشكل حلقة أخرى في العلاقة الجدليّة بين الحراك الشعبي والفضاء الافتراضي.
إن تجليات الحراك الشعبي الجزائري في الفضاء الافتراضي يدعو إلى مراجعة  مفهوم ” الفضاء العمومي المعارض” الذي صاغه الفيلسوف ” أوسكار نغت” على ضوء أطر النقاش والتمثيل التي شكلتها الحركات الاجتماعية في الشارع أو أنها في طور تشكيلها. فالشعارات والمطالب التي يرفعها الجزائريون في مسيراتهم ، تسري في مواقع التواصل الاجتماعي ليصل مداها إلى من لم ينزل إلى المعترك في الشارع. والشعارات والأغاني التي تولد في الفضاء الافتراضي تجد صداها العملي والتجنيدي في الشارع. ففي ظل هذه العلاقة الجدلية بين الشارع والفضاء الافتراضي انزاح ” الفضاء العمومي المعارض”، فضاء المهمشين، ليحتل المركز ولو إلى حين، وتراجع الفضاء العمومي الرسمي إلى الهامش. لكنه لم يستسلم بعد، وربما لم يستسلم على المدى القريب، بل يحاول استعادة مكانته في المركز من خلال تملك خطاب الشارع وتعبئة وسائل الإعلام الموالية له. في ظل هذا التدافع بين الهامش والمركز تبدو أن حركية الفضاء العمومي لم تعد تستند إلى المداولات والاستعمال العلني للحجة ، بل أضحت ترتكز على قوة المرئي والاستعراضي واستغلال ما هو وجداني وإلى سرد المرويات ” الجديدة”.

المصدر: موقع البروفيسور نصرالدين لعياضي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).