د/ عبد الرزاق حموش أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة قالمة
عرف الإعلام الجزائري تحولات كثيرة عبر عدة مراحل من تاريخ البلاد فانتقل من مقاومة المحتل إلى التعبئة للثورة الاشتراكية إلى الانفتاح والتعددية في مجال الإعلام المطبوع دون السمعي االبصري مع تسجيل ارتباط قوي للصحف بمختلف اتجاهاتها وخطوطها التحريرية بالسلطة الحاكمة من خلال آليات : القوانين التنظيمية ،التمويل ، التراخيص ، الطباعة ، التوزيع ، والوصول إلى مصادر المعلومات .
وهي الآليات المحددة لمعالم الخارطة الإعلامية الوطنية ، وشكل وحجم حرية التعبير التي اعتبرها البعض -خلال هذه المراحل - متحكما فيها وموجهة بأساليب غير معلنة لأغراض التنفيس السياسي للجماهير المحتقنة جراء الأزمات المتعاقبة في شتى المجالات ، والتي ازدادت حدتها في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم مع انهيار الاقتصاد وتردي الأوضاع الأمنية والاجتماعية .
وباشتداد ضغوط المحيط الاقليمي بعد اندلاع ثوارات ما عرف بـ"الربيع العربي" ، حاولت بعض أجنحة النظام الجزائري تقديم نوع آخر من التنفيس السياسي عبر السماح بانشاء قنوات تلفزيونية خاصة تتحكم في جزء منها بشكل مباشر ، وفي باقيها من خلال غموض القوانين التي تنظم القطاع والتماطل في إطلاق النصوص التنفيذية ، والابقاء على احتكار الاشهار العمومي ومحاصرة حرية التعبير أو محاولة توجيهها بما يخدم مصالح العصب الحاكمة ، والنخب الفاسدة من السياسيين و ناهبي المال العام الذي تحول أغلبهم إلى رجال أعمال خاضوا في مختلف القطاعات والنشاطات ، ومن أبرزها قطاع الإعلام ، فأصبحت لهم صحف ومواقع إلكترونية وقنوات تلفزيونية تحاول توجيه الرأي العام وتحضى-تبعا لذلك- بكافة الامتيازات والتسهيلات ، بينما تتم محاصرة الأقلام الحرة ونزهاء المهنة في القطاعين العمومي والخاص .
وقد اصطدم الجزائريون بهذا الواقع الأليم بمجرد انطلاق الحراك الشعبي في 22 فيفري 2019 الذي لم يجد له من صوت إعلامي يعبر عنه في الداخل إلا بشكل محدود ومحتشم ، لم يكن أبد في مستوى الانتفاضة العظيمة التي لم تتوقع أي جهة حجمها ولا فعاليتها . وقد انشغلت معظم قنواتنا وصحفنا -قبل ذلك - بالاستهزاء بالمترشحين للرئاسيات وبث ونشر مضامين تزرع مزيد من الاحباط والعزوف عن الشأن السياسي المحسوم -حسب تقديرها- بشكل او بآخر لصالح السلطة الحاكمة . مع تغليف ذلك ببرامج تنتقد وتهاجم و تفتح المجال جزئيا للمعارضة ، ومضامين تدس السم في العسل . لأن باطنها لا يعبر عن ظاهرها ،و عزل الأصوات الحرة والتعتيم على الحقائق .
وبهجرة الجمهور نحو الإعلام البديل وفضاءات التواصل الاجتماعي ، ولجوءه إلى الإعلام الأجنبي رغم معرفته المسبقة بأجنداته واهدافه . حاول إعلامنا استدراك الأمر والحفاظ على ما تبقى له من مصداقية
كما ركب بعضه الموجه بسرعة ،و ظهرت بعض اللافتات التي تميز انصار الحراك من المؤسسات الإعلامية عن أعداءه ، كما انتفض جزء مهم من الإعلاميين في التلفزيون العمومي والإذاعة الوطنية وفي ساحة حرية الصحافة ومختلف الفضاءات العامة للمطالبة بالحرية ورفع التضييق عن ممارسة المهنة وتبرئة أنفسهم من السياسة التي رسمتها العصابات المتسلطة ، وأوصلت القطاع إلى هذا التردي . فقد فهم شرفاء القطاع ، وحتى أولئك الذين تبنوا مسار المنظومة القائمة وخضعوا -مخيرين أو مجبرين - لضغوطها أن القناعة المنطلقة من الضمير الحي والأخلاقيات الراسخة ، هي الضمان الوحيد للحفاظ على المصداقية والرابطة القوية مع الجمهور ، بعد تحرير المهنة من الدخلاء والمتملقين وأصحاب المصالح الضيقة .وهو الهدف الذي يجب أن يسعى إليه الجميع ليكون أحد أهم نتائج الحراك الذي اثبت لحد الآن أنه أكثر وعيا وفهما وتمييزا للنقي عن الفاسد ، من كل النخب المتواجدة على الساحة الوطنية .
فإعلامنا اليوم أمام سلطة قوية لجمهور واع و مختلف جاء به الحراك المتحضر للشعب الجزائري ، ولا سبيل له إلا تطهير صفوفه وتغيير سياساته ومساراته بما يخدم الحقيقة كما أن بناء منظومة إعلامية حرة وقوية ، سيكون أحد ركائز الجمهورية الجديدة ، إلى جانب القضاء العادل ، والسلطة الرشيدة والمجتمع المدني الفاعل ، والنخب المؤثرة والمتمسكة بثوابت الأمة . وهذا هو الطريق الصحيح الذي سيضع الجزائر في المكانة التي تستحقها ، والتي تجتمع فيها كل الطموحات والنضالات والتضحيات لمختلف أطياف وشرائح مجتمعنا .
تعليقات
إرسال تعليق