التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أي تأثير لوسائل الإعلام على المجتمع؟


بقلم أ.د / إدريس بولكعيبات


لا يمكن تقدير حجم التحولات التي طرأت على حياة البشر منذ فجر التاريخ  لكنها بالتأكيد كبيرة، مقارنة بين أسلوب حياة الإنسان القديم و الإنسان الحديث الذي لم يعد يشبه أسلافه من وجوه عديدة، منها تطويره لقدرة غير محدودة على الاتصال . فالإنسان اليوم بسط سيطرته على الجغرافيا من خلال جعل الاتصال ممكنا بين البشر دون اعتبار لاتساع المسافات، إذ لم يحرر نفسه فحسب من البيئة الطبيعية التي خضع لها خضوعا مطلقا لآلاف السنين، فقد كانت تقرر و تحدد كل الأشياء تقريبا في حياته.
هذا الانقلاب في العلاقة مع الطبيعة لصالح الإنسان  غير من الإنسان نفسه . و يجب فحص ما إن كان إنسان الألفية الثالثة، قد جعلت منه الحضارة التي أنجزها إنسانا آخر، مختلفا عن أسلافه اختلافا نوعيا. و ما إن كان ذلك يسمح لنا بمقارنة هذا الفرق بذلك الذي بين إنسان الكروماينون Cromagnon و إنسان نينادرتال Neanderthal.
 و فهم هذا التحول تلخصه وسائل الاتصال التي تسارع تطورها خلال الخمسين سنة الأخيرة ،و بالرغم من أن عددا من الكتاب الموهوبين حملوا البشرية على الحلم بأشياء كانت تبدو فوق الطاقة.
و تحولت مع الوقت إلى حقائق ، إلا أنهم لم يتوقعوا ثورة في المعلومات على النحو الذي نعيشه اليوم.
و قد تكون هذه الثورة الوحيدة التي تستحق هذه التسمية ، إذ أنها غيرت مجرى الحياة في العمق.
 إن الإنسان المعاصر، هو الإنسان القادر على الاتصال بلا حدود ، حيث تفوق لأول مرة إنتاج المعلومات على النمو الديمغرافي و كذا القدرة على استهلاك المعلومات .هذه الغزارة في إنتاج المعلومات و استهلاكها ، لفتت انتباه الباحثين في منتصف القرن العشرين ، حيث عكفوا على دراسة الظواهر الناجمة عن تداول المعلومات ، أي تأثيرها على العلاقات الاجتماعية و سلوك الأفراد.
و يبدو أن الذين انكبوا على تناول موضوع وسائل الإعلام  بالبحث و الدراسة قد سلموا جميعا بوجود تأثير لوسائل الإعلام على الذين يتعرضون لها . و أنها أصبحت لها سلطة عليهم ، لا يمكن نكرانها . و هكذا فإن هذا التطور الذي بدأ في أقدم العصور باختراع أدوات بسيطة للتواصل بين أفراد الجماعات البشرية ، قد حول أدوات كانت تساعد الإنسان على السيطرة على بيئته إلى أدوات أوقعته تحت سيطرتها و هيمنتها ، إلى درجة اتهام وسائل الإعلام بالتلاعب بالعقول و التخدير. و هذه أقصى درجات السيطرة . (1) 
 و إذا كان، هناك تسليم بتأثير وسائل الاتصال على الأفراد ، على اعتبار أن ذلك تجلى في الكثير من الظواهر الاجتماعية و الثقافية و السيكولوجية ، فإن اختلافات عميقة أحيانا، قد ظهرت بين الباحثين حول نوع و عمق التأثير الذي تحدثه وسائل الاتصال في الجمهور أي في اتجاهات سلوكاته.
 و من جملة الاتجاهات لدى الباحثين لفهم وسائل الاتصال و علاقاتها بالمجتمع ، هناك النظرة التاريخية الداعية إلى تتبع تطور وسائل الاتصال عبر العصور . و كما هو معروف ، فإن هذا التطور ، لم يكن دائما بنفس الوتيرة ، فأحيانا كان هناك تسارع و أخرى كان هناك تباطؤ ، لكن المثير في هذا السياق هو التغيرات المفاجئة التي تنقل الإنسان من عصر إلى آخر مختلف عنه ، من أوجه عديدة في شكل الحياة الاجتماعية و الاقتصاد و كذا وسائل الاتصال المستخدمة.
 ويبدو أن التحولات من عصر إلى آخر، هي تحولات ذات بعد اتصالي أيضا . بالرغم من أن رجال الاقتصاد يركزون على التحول النوعي في أسلوب إنتاج الثروة و أن علماء الاجتماع يركزون على التحول في البنى الاجتماعية ، و بينما يهتم المؤرخون أكثر من غيرهم بالأبطال الذين خلقوا من حولهم بؤرا للتغيير.
و أفضل من عبر عن هذا البعد العالم الكندي " مارشال ماك لوهان Marchal Mac Luhann "، فهو الذي فسر لنا تطور التاريخ الإنساني من خلال متغير أدوات الاتصال، حيث كان يقول :" أن الرسالة هي الوسيلة " و كان ينظر إلى الوسائل التقنية التي ابتكرها الإنسان على أنها امتداد للحواس.
 و قد درس "ماك لوهان" مدى تأثير إدخال الوسيلة الإلكترونية على الثقافة و العادات و التعليم ، واستخلص النتائج الآتية: 
 - في المجتمعات ما قبل الكتابة " الحضارة الشفوية" ، يتفاعل الانسان بكل أحاسيسه في علاقته بالعالم ، إنه الإنسان القبلي الذي يعيش في قرية ، و يقوم تنظيمه الاجتماعي على المشاركة الكلية للأفراد . وكل فرد مرتبط عضويا بالآخرين و الثقافة السائدة هي النوع الشفوي، و تتسم بالتكرار و يغلب عليها الأسطورة ، و وفق هذه الخصائص يصنف الفيلسوف اليوناني سقراط كمفكر قبلي.
 - المرحلة الثانية للإنسانية هي عصر الكتابة ، و هي المرحلة الواقعة بين المجتمع القبلي . و القرية" الكبيرة الشاملة Le villge global " . وتتميز الحياة الإنسانية في عصر الكتابة بالتقسيم و التشردم ، حيث تسيطر النظرة على الإدراك و لا يعيش الإنسان أبدا في إطار الزمان و لكن يعيش في المكان . إنه يبحث عن التوسع ، بعد أن اكتشف الجغرافيا . إنه إنسان الأبجدية الذي يدير ظهره لثقافة الانفعال الغنية التي كانت سائدة قبل عصر الكتابة . و يخلص ماك لوهان الى أن إنسان الكتابة أقل حرية .
و يلتقي في هذا الطرح  مع عالم الأنثوبولوجيا "كلود ليفي ستراوس" في كون الانسان الهمجي أكثر حرية من الإنسان الحديث . فمع ظهور الكتابة حدث انقطاع بين التفكير و الحياة العاطفية.
 و الواقع، أن عصر الكتابة لم يتبلور بشكل تام إلا بعد اختراع المطبعة ، و قد أدى طبع الكتاب إلى الفصل بين العلماء و الجهلاء. و هكذا ظهر بعد جديد في التصنيف الاجتماعي.
- المرحلة الثالثة : و هي المرحلة الحالية و التي  تعيشها المجتمعات الصناعية و المتميزة بظهور الاتصال عبر الذبذبات و الموجات La Galaxie Marconi ، و قد مكن استخدام هذه التقنيات الجديدة من إعادة التوازن المفقود بين التفكير و الأحاسيس ، إذ تفتح وسائل الاتصال الجديدة " الهاتف ، الراديو ، التلفزيون ، الانترنيت " عهد التزامن Simultaniete و هو ما يحمل بوادر مجتمع قبلي عالمي Societé Tribale planétaire : و من هنا اعتبر "ماك لوهان" تكنولوجيات الاتصال عاملا حاسما لتغيير المجتمع . و بمعنى آخر ، أنه إذا أردنا تغيير مجتمع معين ، و نقله من حال إلى آخر فإنه يتعين علينا إدخال وسائل اتصال تناسب الحال المراد تحقيقها . و بالرغم من أن محاولة تفسير كيفية حصول التغير الاجتماعي بالاعتماد على عامل معين ،باعتباره شرطا كافيا لم تعد مقنعة في ضوء الاعتراف و التسليم بتعقد الحياة الاجتماعية و تنوعها و خصوبتها ، فإنه مع ذلك يمكن القول أن نبوءة "ماك لوهان" أقرب إلى التحقق من نبوءة "كارل ماركس"التي أخذت في التلاشي .والواقع ، أن مصدر قوة نبوءة "ماك لوهان" تكمن في الاعتماد على تلك الحقائق التاريخية التي تؤكد وجود في الماضي على الأقل ما يشير الى وجود تزامن بين التحولات الكبيرة في وسائل الاتصال و التحول في شكل الحياة الاجتماعية.
 فالاتصال الشفوي كان سمة أو ميزة من ميزات "مجتمعات الصيد "بينما الاتصال عبر الكتابة كان ميزة من ميزات المجتمعات الزراعية ، في حين الاتصال عبر وسائل الإعلام هو سمة من سمات مجتمع المدينة التي احتضنت الصناعة . و بصورة أكثر واقعية ، فإن عصر وسائل الإعلام قد بدأ في مستهل القرن العشرين بظهور و انتشار الفيلم و الراديو و التلفزيون بين عدد كبير من الناس و كانت وسائل الإعلام هذه هي التي بدأت مرحلة الانتقال العظيم التي نواصلها اليوم.
و" لكن التطور الإنساني و التراكم الثقافي يستمر ،و لذلك فقد تسللنا مؤخرا  ربما دون استعداد إلى عصر الكمبيوتر و لا أحد يمكن أن يحدد بثقة و تأكيد ما يحمله هذا العصر بالنسبة للاتصال . و لكن أجهزة الكمبيوتر تنقلنا بالفعل إلى ما أصبح يسمى مجتمع الإعلام ".( 2)
و قبل " ماك لوهان "، نجد "تونيز F.Tonnies "و "ريسمان Riesman DD." قد ربطا أيضا نظريتهما بأنماط الاتصال . و يبدو أنه تم تعزيز إمكانية وجود نوع من الترابط بين شكل معين من الحياة الاجتماعية و أ نماط معينة من الاتصال ، و إن كان هناك بعض الإشكالات التي تطرح على طريق هذا الربط.
أول هذه الإشكالات ، أنه لا توجد أنماط اجتماعية نقية ، فهناك دائما أنماط تغلب عليها سمة معينة  دون إحداث قطيعة مع الأشكال السابقة للحياة الاجتماعية ، و كذا الأمر بالنسبة لوسائل الاتصال التي لم يزح بعضها البعض الآخر . فقد تأكد في كل مراحل التاريخ و في كل المجتمعات أن تطوير الإنسان لوسيلة جديدة من وسائل الاتصال لا يدفعه إلى ترك أو التخلي عن الوسائل السابقة التي كان يستخدمها . فنحن مازلنا نستخدم الإشارات ، بالرغم من أننا انتقلنا إلى عصر الكومبيوتر الذي يرمز إلى مجتمع الإعلام .
 و هذا التباين بين مختلف أشكال الحياة الاجتماعية، وكذا وسائل الاتصال القديمة منها و الحديثة يجعل النظريات التي تميل إلى تفسير ظاهرة تطور وسائل الاتصال في شكل خطي تطوري يواجه بعض الصعوبات حيث تجعل منها غير مقنعة .
 و رغم الإقرار بهذه التحفظات التي تؤكدها الدراسات الأنثروبولوجية ، فإنه يسجل وجود علاقة وثيقة بين تغير وسائل الاتصال و ظاهرة الحياة الاجتماعية . فالأشكال الأولى من الحياة الاجتماعية التي عثر الأنثربولوجيون علىصور افتراضية لها في المجتمعات المعزولة في إفريقيا و أمريكا الشمالية وجزر الهند الشرقية و غابة الأمازون .. لم تعرف الأبجدية ؛ و أنها استمرت في استخدام الإشارات و اللغة الشفوية و هي لغات أحيانا أكثر تعقيدا من اللغات التي تستخدمها المجمعات الحديثة . فبساطة الحياة الاجتماعية لم ينتج عنها بساطة في اللغة . .
و يبدو أن ظهور عنصر ثقافي معين في مجتمع ما  يرتبط بمدى الضغط الذي تولده الحاجة إلى ذلك العنصر، فالحاجة أم الاختراع . غير أن هذا التفسير لا يبدو مطلقا ، ففي المجتمعات الحديثة هناك تعبير عن الحاجة في ميادين مختلفة ، إلا أن الإشباع لا يتحقق عن طريق الاختراع بالضرورة بل يتم عن طريق الانتشار .
و مهما يكن من أمر ، فإن الحضارات الكبيرة التي نشأت من حول الأنهار ، عرفت كلها الكتابة  و إن لم تعرف كلها الأبجدية . فظهور الكتابة له صلة بانتقال الأفراد من الحياة في نطاق القبيلة إلى فضاء اجتماعي وجغرافي أوسع ،حيث شغلت أحداث كثيرة في محيط الإنسان من المشاركة المباشرة و الآنية لكل الأفراد . ولذلك حلت الرموز محل الأشياء لتحل مشكل غيابها ، لتصبح الرموز هي الطريقة الوحيدة الممكنة لاستحضارها .
و هكذا يبدو أحيانا ، أن استحداث وسائل الاتصال  و كأنه مسألة بنيوية ، حيث أن استخدام وسائل معينة للاتصال يحقق غرض البنية أي يسند المكونات الأخرى للبنية : فمن غير المعقول ، تصور إمكانية انسجام و نجاح وسائل الاتصال التي تستخدمها المجتمعات الحديثة ، من طرف المجتمعات القديمة ، حيث أنها لن تحقق الجدوى المطلوبة من الاتصال . و كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات الحديثة فإنها لا تستطيع العودة إلى وسائل الاتصال التي استخدمت قبل قرون و التخلي عن تلك التي تم انجازها في التاريخ المعاصر .
و مهما يكن ، فإن المراحل الانتقالية في تاريخ الاتصال الإنساني يوضح حقيقتين أساسيتين :
 الأولى، أن ثورات الاتصال قد حدثت عبر مختلف مراحل الوجود الإنساني ، و في تنظيم المجتمع ، و تراكم الرصيد الحضاري للبشرية . و الثاني : أن تطور وسائل الإعلام قد حدث في مرحلة متأخرة للغاية بالفعل ، فالعديد من أهم التطورات الكبرى تمت خلال حياة جيل مازال جزء كبير منه يعيش في الوقت الراهن ( 3).
و لهذا فان التطورات الكبرى  في الاتصال التي حصلت خلال القرن العشرين هي التي لفتت الانتباه إلى ضرورة جعل هذا النشاط موضوعا لعلم مستقل ، و هو علوم الإعلام و الاتصال ، حيث طرح الباحثون أسئلة حول التأثيرات المحتملة لهذه الوسائل على المجتمع .
ويرى "ديفلين"أن تقييم طبيعة و تأثير الإعلام تتركز على ثلاثة أسئلة محورية :
 - ما هو تأثير المجتمع على وسائل الإعلام ؟ وما هي الظروف السياسية و الاقتصادية و الثقافية التي جعلت وسائل الإعلام تمارس عملها بالشكل الذي هي عليه الآن ؟
 - كيف يحدث الإعلام ؟ و هل يختلف في الجوهر و المبدأ أم يختلف فقط في التفاصيل الخاصة بالاتصال الأكثر مباشرة بين الأفراد ؟
- ماذا تفعل وسائل الاتصال في الناس ؟ هل هي تؤثر فيهم نفسيا و اجتماعيا وثقافيا ؟
يعتقد ديفلين ، أن اهتمام الباحثين بالإجابة على هذه الأسئلة لم يكن بنفس القدر . " (4) .
و واضح من موضوع الدراسات التي أجريت في مختلف جهات العالم حول الاعلام أن الجانب المتعلق  بتأثير وسائل الإعلام في البشر كان أقل مما يجب أو مما يتطلبه حضور وسائل الاعلام في حياة البشر .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).