التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشباب الجامعي والانترنت

تقديم:
لقد ظلّ موضوع التكنولوجيا لعقود عدّة محلّ تساؤل، وموضع اهتمام، يثير الجدل والنّقاش حتّى داخل الأوساط الأكاديميّة، فتعدّدت المقاربات النّظريّة، والاتّجاهات الفكريّة، ليبقى القاسم المشترك بينها؛ توصيف عمليّة التّغيّر التّكنولوجي، انطلاقًا من جملة من المؤشّرات (الكمّية منها والكيفيّة) لقياس مدى أهمّية حضور التّكنولوجيا في مجتمع ما، ورغم الاتّفاق على مبدأ ضرورة التّعامل مع التّكنولوجيات الحديثة، لما لها من مزايا وإضافات، مثّلت جميعها عامل دفع نحو تيسير الأمور الحياتيّة والمشاغل اليوميّة للفرد، وتنمية المجتمع، بناءً على ما توفّره من إمكانات مادّية ونوعيّة متاحة؛ فإنّ الأمر ليس كذلك دائمًا، بالنسبة إلى بعض الفئات الاجتماعية التي تتعامل مع هذه التقنيات بناء على جملة من الدوافع النفسية والرؤى الاجتماعية.

تقوم هذه الدّراسة ببحث إشكالية براغماتية التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، مركّزة في ذلك على تقنية الإنترنت، باعتبارها ركيزة من ركائز المجتمعات الحديثة، قد تروي ثقافة مجتمعيّة وهويّة حضاريّة، ما يجعل الاهتمام بهذه التّقنية اعترافًا بمكانتها العمليّة والرّمزيّة أوّلًا، واتّجاهًا إلى تثبيت مجتمع حداثيّ رقميّ ثانيًا.
تتناول دراستنا هذه ثلاثة محاور رئيسة:
- محور أوّل: يعنى بالشباب والإنترنت في سوق الاستهلاك.
- محور ثان: يخصّ الإنترنت والتّمايز الاجتماعي.
- محور ثالث: يهتمّ بالمسؤوليّة المجتمعيّة تجاه الإنترنت.
1- تحديد المفاهيم الإجرائيّة:
من أبرز الإشكاليّات الّتي قد يتعرّض لها الباحث في دراسته لظاهرة اجتماعيّة (تحديد المفاهيم) ومفهوم التّكنولوجيّات الحديثة في معناه العام، قد يفضي بنا إلى عدّة تعاريف تنزلق بنا في عدم إجرائية هذا المفهوم؛ إذ إنّ تعريف هذه التّكنولوجيّات وفق منطق تقنيّ تطوّريّ بمنأى عن المجتمع، وعن دلالته، ورمزيّته، قد يكون لا معنى له من وجهة نظر الفاعلين الاجتماعيّين الّذين ينتمون إلى ذلك المجتمع، ولعلّ هذا ما سيدفعنا إلى شيء من التّحفّظ إزاء هذا المفهوم الفضفاض، ليقع استعماله عند الضّرورة لغاية علميّة إجرائية بحتة.
أمّا المفهوم الإجرائي الّذي سنعتمد عليه، والّذي سيكون منطلقًا لتحليلنا؛ فهو "مفهوم الإنترنت" على اعتباره وسيلة تواصليّة، تتحدّد قيمتها الاستعماليّة انطلاقًا من تمثّلات وأهداف مستعمليها، فتكون هذه التّقنية؛ إمّا ذات دلالة ترفيهيّة ترويحيّة، أو تكون، في بعض جوانبها، علميّة تثقيفيّة لتلعب دور الوسيط التعليميّ عن بعد بامتياز، هنا يبدو تمييزنا لـ"لإنترنت التّرفيهي" إن صحّ التّعبير، عن الإنترنت التّعليمي، متأثّرًا بالبنى الذّهنيّة للفاعلين الاجتماعيين أنفسهم؛ فيكون بذلك "الإنترنت التّعليمي" مرادفًا لمصطلح التّعليم البعدي أو التّعليم عن بعد.
أما المفهوم الثاني الّذي يمكن على أساسه تمييز المستهلكين لتقنية الإنترنت؛ فيتّصل بالشّباب، وتحديدًا فئة الشّباب الجامعي؛ إذ قدّرنا أنّها الفئة الأكثر استهلاكًا للإنترنت، والأكثر قدرة على توجيه ممارساتها (الإنترنتيّة) بطريقة نفعية.
2- الشباب والإنترنت في سوق الاستهلاك اليومي:
يمكن اعتبار التكنولوجيات الحديثة منسجمة إلى حدّ كبير مع محيطها، حيث ارتبط تركيزها بمشروع مجتمع حداثي، يفرز ما هو معبّر عنه اجتماعيًّا، ويلقى تشجيعًا متواصلًا من السّلطة السّياسيّة، ولعلّ من أبرز هذه التّشجيعات؛ إصدار "الحاسوب العائلي" الّذي أقرّت به سياسة الدّولة التونسية منذ سنوات، لتنتفع به شرائح اجتماعية مختلفة.
اتّخذ هذا التّشجيع منحىً تصاعديًّا، يتمثل أساسًا في تيسير عمليّة الوصل بالإنترنت، والحرص على توفير تسهيلات في الدّفع لذوي الدّخل المتوسّط، ممّا ساهم في تنامي عدد المستهلكين للإنترنت، الذين بدوا متأثّرين بهذه التّقنية ومنبهرين بها، وقد ازداد هذا التّأثّر حدّة مع بروز بعض الكتابات والرّؤى الّتي تمجّد مزايا الإنترنت، بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، فتمّ تبعًا لذلك على الأقلّ في مرحلة أولى؛ تهميش الآثار السّلبيّة لهذه التّقنية، وحصرها في ضرورة عدم الإسراف في التعامل مع هذه التّقنية، حتّى لا تتحوّل هذه الممارسة إلى عمليّة إدمان، مما أدّى إلى خلق عقليّة ضيّقة الرّؤية، تكاد تحصر خطورة الإنترنت؛ في عمليّة الإفراط دون وعي كاف بإمكانية اهتزاز الذّات البشريّة، وضرب الهويّة العربيّة، عبر زيارات افتراضيّة لمواقع منتجة لثقافة، وقيم، ومعايير، مغايرة تمامًا لثقافة المجتمع التونسي، أو كذلك من خلال مواقع متمرّدة على الإسلام، ومناهضة للفكر التّربوي العربي، وغيرها من المواقع الأخرى، التي لا تحصى في هذا الاتّجاه.
في هذا الإطار، يرى المحلّل النّفسي فيليكس غاتاري Félix GUATTARI: "أنّ الآلات التكنولوجية للإعلام والاتصال، بدءًا بالمعلوماتية، مرورًا بوسائل الإعلام، تتدخّل في قلب ذاتيّة الإنسان، لا على مستوى ذاكرته وذكائه فقط؛ بل على مستوى شعوره ومؤثّراته ولا وعيه أيضًا"[1].
يمثّل هذا الوضع إذن؛ منعرجًا حاسمًا، وخطيرًا في الآن نفسه، من الاستهلاك (الإنترنتي) وهي وضعيّة غير سويّة، قد تكون ناتجة عن المرحلة الأولى لترسيم التكنولوجيات الحديثة داخل المجتمع التونسي؛ فالوضعيّة السّويّة، أو الصحية في التّعامل مع الإنترنت، تتمثّل في اعتبار هذه التّقنية مؤشّرًا دافعًا للتنمية البشرية السّليمة، في صلب منظومة أخلاقيّة وقيميّة يحدّدها العقل الجمعي، شأنها شأن كلّ المؤشّرات الأخرى المساهمة في عمليّة التّنمية؛ من تغذية سليمة، وصحّة، وتعليم، ...إلخ، في هذا الإطار تندرج بعض الكتابات، والنّدوات الثقافيّة، والعلميّة، الّتي تجعل من استغلال الإنترنت، استغلالًا سليمًا وممنهجًا، مفتاحًا من مفاتيح التّعلّم عن بعد، والتّكوين المستمرّ، وأحد مداخل التنمية المجتمعيّة.
إنّ المتمعّن في طبيعة الاستهلاك اليومي للإنترنت، يتراءى له شقّين من المستهلكين:
- شقّ أوّل: يكون استهلاكه لهذه التقنية في مجمل الأحيان، ذو طابع ترفيهي عشوائي، يفقد في مجمل الأحيان "القدرة على تشخيص الصّعوبات[2]، والآثار السّلبية للتكنولوجيات الحديثة".
- وشقّ ثان: يكون استهلاكه، في الغالب، استهلاكًا انتقائيًّا براغماتيًّا، مع أنّ الكفّة تبدو مرجّحة كمّيًّا لفائدة الشّقّ الأوّل؛ ليبقى سلوك المستهلك المسؤول الأوّل عن مدى القيمة النّفعيّة لهذه التّقنية. فما معنى ذلك سوسيولوجيّا؟
إنّ تعدّد أصناف المستهلكين والمتعاملين مع تقنية الإنترنت، وتباين انحداراتهم الاجتماعيّة، وانتماءاتهم الطّبقيّة؛ يجعل المشهد العامّ لعمليّة الاستهلاك غير متجانس، ويجعل لكلّ طبقة "مرجعيّة فكريّة" خاصّة بها، و"تمثّلات فئويّة" تترجم عادة في شكل أهداف وغايات خاصّة بعمليّة الاستهلاك.
وإذا عدنا إلى تعريف بورديو لمفهوم الإستراتيجية، الّتي لا تعني بالضّرورة؛ رسم هدف واضح باعتبارها، أي الإستراتيجية، تحقّق لها في فعل ما يقرأ بعديًّا"[3]، يبدو أنّ هناك ممارسات سلوكية متباينة، حيث لاحظنا من خلال الواقع الجامعي الذي عايشناه، بحكم انتمائنا إلى الحقل الجامعي؛ أنّ هناك فئة شبابية مهمّة تعوّل على حسّها النّقدي في اختيار المواقع التي تزورها "انطلاقًا من التفكير في عواقب تدعيم التكنولوجيا"[4] بصفة اعتباطيّة، وتحاول رسم صورة  مختلفة عن بقية الطّلبة، تبرزهم على أنّهم؛ فئة واعية قادرة على حماية نفسها بنفسها، والحفاظ على هويّتها الاجتماعية، وتعزيز مكتسباتها ومعارفها، بعيدًا عن الإفراط في الاستهلاك، أو توخّي ممارسات منافية لقيم المجتمع الّذي تنتمي إليه.
إنّها فئة شبابية تحاول تبنّي سلوك مخصوص، يشعرها بالمسؤولية من جهة، والاستقلالية والحرّية من جهة أخرى؛ فبحكم خصوصيّة هذه المواقع من الناحية العلميّة، وحتّى اللّغويّة (خاصّة المواقع الطّبّية، والتّكنولوجيّة، والعلميّة وحتّى الأدبيّة) الّتي يقع زيارتها من قِبل هذه الفئة الشبابية، بدت وكأنّها تتوجّه إلى نخبة معيّنة.
إنّ هذه المنتوجات المعروضة للاستهلاك على صفحات الويب، ورغم ثرائها وقيمتها العلميّة، وحتّى العمليّة في بعض الأحيان؛ بدت غير متوافقة مع هابتوس بعض طلبة الطّبقات الاجتماعيّة داخل المجتمع التونسي، الذين يميلون إلى استهلاك ما هو بسيط وشائع في نفس الوقت، فيرسمون لأنفسهم صورة مختلفة عن الفئة الشبابية الأولى، تظهرهم على أنّهم متحرّرين، حجّتهم في ذلك؛ أنّ الإنترنت ثورة تواصليّة بدون حدود.
بعبارة أخرى؛ ينزع جلّ هؤلاء المستهلكين للإنترنت، إلى تثمين ما هو شائع بغضّ النّظر عن قيمته النّفعيّة، فيلجئون في مجمل الأحيان إلى الشبكات التواصلية الاجتماعية، الّتي تتّصل بمعرفة الأخبار اليوميّة، وحوارات الدّردشة، وبعض مواقع الموضة والفن؛ وذلك لاستجابتها لأمرين اثنين؛ أوّلًا: طابعها الترويحي. وثانيًا: معرفة أخبار الموضة، والنّجوم، والمشاهير، الّتي تكون في مجمل الأحيان شخصيات مبهرة لفئة الشباب ومؤثّرة فيها.
يبدو في سلوك هذه الفئة الشبابية، أنّ ما يهمّها في المواقع الالكترونية المعروضة؛ هو تحقيق حاجة نفسية مختزلة في حبّ التعارف، والاطّلاع، والرّغبة في مواكبة المستجدّات الحياتيّة المرتبطة، في ذات الوقت، بالمعيش اليومي، واللافت للانتباه في هذا السلوك العشوائي؛ أنّه يترسّخ منذ مرحلة الطّفولة، عندما يجد الطفل نفسه مجبرًا على التعامل مع هذه التكنولوجيا، حتى وإن كانت لا تلائم مستواه الذهني أو العقلي؛ بدعوى أنّها ضرورة يجب التعوّد عليها منذ الصّغر، وهي في نظر العديد من الأولياء شكل من الأشكال المساهمة في تنمية قدرات أبنائهم العقليّة، دون وعي كافٍ بمدى قدرة هذه المواقع على "تشكيل وتطويع المواقف والأذواق والأفضليات"[5].
إنّ القول بانتهاج هذه الفئة الشبابية للتعامل الاعتباطي مع تقنية الإنترنت، يدعونا إلى التّساؤل الآتي: هل يمكن القول إنّ المواقع العلميّة تتوجّه اليوم إلى فئة معيّنة أكثر من كونها تتوجّه إلى عامة الناس؟ وهل يمكننا الحديث عن مواقع نخبويّة لا تستقطب إلاّ فئة الشبان المتفوّقين في دراستهم، ممّا يزيد في بروزهم من جهة، ويدعم تمايزهم الاجتماعي من جهة أخرى؟
3- الإنترنت والتمايز الاجتماعي:
من خلال معاينتنا لسلوكيات بعض الطّلبة المتفوّقين، يمكننا القول؛ إنّ الحرص على التّعامل مع المواقع العلميّة يندرج في إطار ممارسات تمايزيّة[6]، تسعى إلى رسم حدود تفصلهم عن بقيّة الطّلبة، حيث تتّخذ بعض الفئات الطّلابية المتفوّقين من هذه المواقع حصنًا تسعى من خلاله إلى خلق مسافة بينها وبين زملائها، وتتباهى بمعرفة العديد من العناوين الإلكترونيّة القيّمة؛ ليبقى هاجسها الأهمّ عدم البوح بعناوين هذه المواقع حتّى تظلّ حكرًا لها؛ بل إنّ هناك بعض المواقع الّتي تفرض على زائريها شروطًا صارمة للانخراط، أو الاشتراك، أو حتّى للاطّلاع على صفحاتها، ومع ذلك، يذعن هؤلاء الطلبة لهذه الشروط أو التراتيب، حتى لا يفوّتوا فرصة زيارة هذه المواقع النادرة والمهمّة، حسب رأيهم، إنّهم يحاولون البروز في مظهر متفوّق يتعالون به على بقية الطلبة، الّذين يتعاملون مع مواقع بسيطة في محتواها، وخالية من أيّة قيمة علميّة، ويسعون إلى تقديم واجهة اجتماعيّة عن أنفسهم[7]، حسب قوفمان GOEEMAN.
اختصارًا: إنّنا أمام سلوكين مختلفين؛ سلوك أوّل يجتهد في تنزيل هذه التقنية ضمن سياقات علميّة براغماتيّة. وسلوك ثان؛ يرى في هذه التقنية انفتاحًا تواصليًّا يكاد ينحصر في مجاله التّرويحي الضيق. لكن ورغم هذا التقسيم الفئوي الضيق، إلاّ أنّ هناك مؤشّرات تنبئ عن إمكانية توسّع دائرة الطّلبة المستهلكين للمواقع العلمية؛ فالعديد من الطلبة الّذين استأنسوا تقنية الإنترنت، وصاروا يجيدون التعامل مع هذه التقنية، تتجلّى نزعة في سلوكهم إلى استغلال هذه التقنية في ما يفيدهم ويثري معارفهم، وذلك نتيجة اقتناعهم بإمكانية التّأثير السّلبي لهذه التقنية في سلوكياتهم، وأفكارهم، وحتّى شخصياتهم، إن هم تمادوا في تعاملهم العشوائي مع تقنية الإنترنت، وهم بصدد التّخلّي تدريجيًّا عن طباع التعامل الاعتباطي مع الإنترنت، ليتوجّهوا شيئًا فشيئًا إلى تبنّي سلوك مدروس ومسؤول، ما يجعلهم منقادين بدورهم إلى تثمين الإنترنت كتقنية تعليمية إثرائية، بحسب ما تسمح به إمكاناتهم الذهنية.
مؤشّر آخر يمكن أن يسمح بارتفاع زوّار المواقع العلميّة، يتمثل في؛ انتشار المكتبات الافتراضية، والموسوعات العلمية، والمجلّدات الافتراضية، بلغات متعدّدة (عربية، فرنسية، إنكليزيّة...) الأمر الّذي قد يساهم في ارتفاع عدد زوّار هذه المواقع، فانحصار العديد من المواقع العلمية في بعض اللّغات الأجنبيّة (خاصّة الإنكليزيّة منها) قد يمثّل عائقًا أمام عمليّة استثمارها من قبل الطلبة، الذين تعوزهم القدرة اللغوية الكافية لفهم هذه اللّغة، في حين أنّ تواجد المواقع العربية وتناميها، بإمكانه أن يمثل عامل إغراء "لصالح الثّقافة والتّعليم"[8]، ولبعض الطّلبة الّذين يقرّون بأنّها مواقع حسنة، وأحسن ما فيها لغتها المفهومة للعموم.
نستنتج في ضوء هذا التحليل؛ أّن تزايد زوّار المواقع العلميّة، يدلّ على وجود شرائح اجتماعيّة تسعى إلى ترسيمها، واعتبارها رصيدًا علميًّا قابلًا للاستثمار؛ فصرامة بعض المواقع في تقديم مواضيعها، وابتعادها عن كلّ ما هو مبتذل، هو من عوامل ثرائها وديمومتها، ما يجعل دور هذه المواقع مرشّحًا لمزيد من استقطاب فئات شبابية تفعيلًا لإستراتيجيات تمايزيّة، قد تتحقّق من خلال زيارة هذه العناوين الإلكترونية؛ باعتبارها إطارًا ملائمًا لقدرات هذه الفئة من النّاحية الذّهنية والفكريّة.
من المعلوم أنّ؛ أهمية الزاد المعرفي لطالب ما، لا تقتصر على المعلومات المقدّمة داخل أسوار الجامعة فقط؛ بل يجب أن تتعدّد لتشمل موارد ومصادر خارجية، "فعندما نتكلّم عن المعرفة، يقودنا ذلك إلى المنظومة التّعليميّة بمفهومها الواسع الّذي يتجاوز حدود المكان والزمان؛ لذلك فقد أصبحت تكنولوجيا المعلومات تتيح التّعلّم خارج حدود المدرسة أو الجامعة لفترات زمنيّة تتّسع لتشمل حياة الفرد كلّها"[9]، فبذل الجهد من أجل الوصول إلى معلومة ما، أمر مطلوب قد يرفع من مكانة صاحبه ويزيد من حظوته الاجتماعية، لتصبح شكلًا من أشكال اعتراف المجتمع به، أمّا التّخاذل والتكاسل، فهي صفات منبوذة اجتماعيًّا، قد تضعف حتى من مشاعر الانتماء إلى مجموعة ما. هنا، يتجلّى البعد الاجتماعي في زيارة المواقع العلمية، لتصبح عملية التعامل مع هذه المواقع ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها ظاهرة فرديّة أو نفسية (إن صحّ التعبير).
4- المسؤولية المجتمعية تجاه الإنترنت:
يفيد الواقع الحالي بانطباع مفاده؛ أنّ ثقافة الاستهلاك المنتشرة بين الأوساط الشبابية، ساهمت في ارتفاع عدد المستهلكين لتقنية الإنترنت حتّى من خارج أسوار الجامعة، أمّا على مستوى مضمون عمليّة الاستهلاك، أو على المستوى الكيفي؛ فإنّ هذه الاستفادة حدثت بدرجات متفاوتة، ولم تمسّ كامل الشرائح الشبابية بنفس القدر أو المستوى. وكما هو الحال في بقية السّلوكيات؛ فإنّ ممارسة فعل ما لا يمكن أن تكون مجرّد فعل معزول، أو ممارسة عابرة، بقدر ما تكون في جوهرها نتاجًا لمسار متواصل من التنشئة يحيل إلى جملة من التمثّلات الاجتماعية.
إنّ السّلوك ليس مجرّد ممارسة دأب عليها شخصٌ ما؛ بل هو ترجمة لطرق في التفكير، وتراكمات لبنية ذهنية معينة، تشكّلت وترسّبت عبر سنوات، رغم إمكانية تعديلها أو حتّى تغييرها، متى توفّرت الظّروف المساعدة على ذلك، من هنا تبدو المسؤولية المجتمعيّة تجاه الأبناء، وضرورة إحاطتهم إحاطة نفسية شاملة، حتى لا ينقادوا وراء تقنيه الإنترنت انقيادًا أعمى؛ مسألة حائزة على الإجماع من مختلف المؤسّسات التنشيئيّة، من أجل تأهيل العقليات، ورؤية شباب مسؤول مشبع بقيم المجتمع ومعاييره، باعتبارها دافعًا وواعزًا في الوقت نفسه.
من هذا المنطلق؛ تعمل المؤسّسات التنشيئية على منح الثقة لأبنائها، وتحفيزهم من أجل تشكيل مسارهم الدراسي والجامعي بشكل سليم، حتى تصبح مواضيع مثل التعامل النفعي، والسلوك السوي، والالتزام بأخلاقيات المجتمع، أهدافًا مستبطنة بالنسبة إلى أغلبيّة الشبان المتعاملين مع الإنترنت.
بهذا المعنى؛ أوكل للشبكة العنكبوتية دور تعليميّ تكوينيّ، لا تستطيع الاضطلاع به، إلاّ إذا وجد من ضمن مواردها البشريّة وإطاراتها، من هو قادر على استيعاب التكنولوجيات الحديثة اللاّزمة[10]، فقبول الشباب الجامعي، وتفهّمه لقوانين اللعبة (الإنترنتية) يأخذ "في بعض الأحيان أشكالًا صارمة في إدارة الذّات، أكثر من تلك الّتي يتوقّعها الآباء"[11] ويفترض أن يحدث هذا دون أن تؤدّي قوانين اللّعبة هذه إلى "اضطراب أو اختلال وظيفي يخلق نوعًا من اللامبالاة"[12] لدى فئات عريضة من مستعملي الإنترنت في المستوى العلائقي (مثل: الانسلاخ عن العائلة، أو تقلّص فرص التواصل المباشر...إلخ) أو في  مستوى المردوديّة التعلّيمية.
من المؤكّد أنّ تقنية الإنترنت تتحوّل يومًا بعد يوم إلى قوّة تكنولوجية على جميع الأصعدة، وهو ما بوّأها المرتبة الأولى في عالم التكنولوجيا، على اعتبار أنّها تقنية تلعب أدوارًا عدّة؛ منها ما يتّصل بالتواصل الاجتماعي، ومنها ما يرتبط بالاقتصادي والتجاري، لتكون في جزء آخر من مكوّناتها الافتراضية؛ حلًّا ملموسًا لبعض المشاكل التعليمية البعدية.
ولمّا كانت الأولويّة التكنولوجيّة تنادي بضرورة ترسيم الإنترنت كتقنية تثقيفيّة؛ فقد يفضي هذا التوجّه إلى تراجع دور القنوات التعليميّة والتكوينيّة الأخرى في القيام بدورها، ولعلّ هذا الموقف الّذي يبخس مكانة الآليات الأخرى، قد يسمح للبعض بالحديث عن أزمة في الكتب والقراءة وارتياد المكتبات ودور الثقافة، حتى بات البعض، من هذه الفئة، يتساءل عن جدوى استمراريّة هذه المباني في وجود عدد من المكتبات الافتراضية والكتب الإلكترونية.
إنّ انحصار التّقدّم والحداثة في كلّ ما هو معولم ورقميّ، وتقييم العلم انطلاقًا من بعض التطبيقات التكنولوجية أو الرقميّة، يعكس رؤية مغلوطة تمامًا لقيمة العلم "ففي بعض الحالات مجرّد بلوغ هدف معيّن ليس كافيًا"[13]؛ لأنّ خدمة المجتمع لا تكون عبر إرساء منظومة تواصليّة افتراضيّة لا وجود لها على مستوى الواقع، أو تقديم خدمات افتراضيّة قد تعزل الفرد عن عالمه الحقيقي؛ بل تكون عبر المراكمة؛ إذ لا حدود بين القنوات التعليمية الحديثة، والقنوات الكلاسيكية أو التقليديّة، إن صحّ التعبير، لأنّ العلم في جوهره؛ نسق تصاعدي لا يقطع مع السابق أو يعزله، ولكنه يبني عليه ويضيف له، وهذا يعني، ضمنيًّا، أن يكون لكلّ القنوات والآليات السابقة، موقعًا محفوظًا، بل ومتميّزًا في برامج التعليم والتكوين، حتّى وإن أصبحت هذه المباني غير مهيّأة بالشّكل الكافي لترسيخ ثقافة رقميّة جديدة؛ بل إنّ غزو التكنولوجيا للحياة اليومية، وسيطرتها المستمرة على كل المجالات الحياتية، كفيل بردّ الاعتبار لبقية القنوات التواصلية الأخرى؛ من كتب، ومكتبات، وحوارات، ومنتديات، وملتقيات، كونها جزءًا لا يتجزأ من عمليّة البناء المجتمعي، ورافدًا هامًّا من روافد التكوين، "فتجديد الفكر لا يمكن أن يتمّ إلاّ من داخل الثّقافة الّتي ينتمي إليها، وعندما يتعلّق الأمر بفكر شعب أو أمّة، فإن عمليّة التّجديد لا يمكن أن تتمّ إلّا بالحفر داخل ثقافة هذه الأمّة"[14].
إنّ الفكرة السائدة التي تربط بين تقدّم مجتمع ما، ومدى قدرته في التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، هي نظرة تروّج إلى تراجع دور بقية الآليات الأخرى، وتبخس مكانتها التربوية والاجتماعية، مما قد يخلق أزمة حقيقية داخل المجتمع، تهدّد بتلاشي ما ترسّب من قناعات ومعارف وثقافة عبر سنوات طويلة، ثمّ إنّ القول بأفضليّة تقنية الإنترنت عن باقي القنوات التعليميّة أو التواصليّة بدعوى حداثتها، قد يقود، في يوم ما بعد حقبة زمنية معينة، إلى الإقرار أيضًا بتقليديّتها، ومن ثمّ فحين تظهر آليات جديدة أخرى سيكون مصير ما سبقها الزّوال.
تبدو النظرة إلى التكنولوجيات الحديثة بصفة عامة، نظرة محدودة، تبالغ في تمجيد التكنولوجيا، وتحصرها في جانبها الحداثي، بغضّ النّظر عن مدى فاعليّتها، في حين أنّ التكنولوجيا؛ هي سيرورة متواصلة من المعارف والمكتسبات، وهي أيضًا جملة من الكفاءات القادرة على استثمارها بشكل واع، ما يجعل مسألة التنمية البشرية مسألة مضمونة، في ظلّ واقع متغيّر يتّسم بتنوّع مصادر المعلومة، وتشابك قنواتها.
خاتمة:
إنّ تعامل الشباب الجامعي مع التكنولوجيات الحديثة، أصبح ضرورة لا بدّ منها، ومظهرًا من مظاهر التّقدّم والرّقيّ؛ فالتعامل المسؤول والواعي مع تقنية الإنترنت، هو الكفيل بإرساء منظومة إنترنتيّة سليمة داخل المجتمع بصفة عامّة، والحقل الجامعي بصفة خاصّة، دون أن يعني ذلك "الافتتان بهذه التكنولوجيا"[15]، والانقياد وراءها دون مراعاة للمعايير والتقاليد الاجتماعيّة.

قائمة المراجع:
-     أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة نصر الدين العياضي والصادق رابح، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر 2005.
-          جوديت لازار، سوسيولوجيا الاتّصال الجماهيري، ترجمة علي وطفه وهيثم سطايحي، دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1994.
-          الحبيب الدّرويش، دراسات في قضايا التنشئة والتمكين والاندماج بتونس، مطبعة التّسفير الفني، تونس 2010.
-          شفيق رضوان، علم النّفس الاجتماعي، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2008.
-          الصادق رابح، الهويّة الرّقمية للشّباب بين التّمثّلات الاجتماعيّة والتّمثّل الذّاتي، مجلّة إضافات، العدد 19، تونس 2012.
-          محمد أديب غنيمي، شبكات المعلومات (الحاضر والمستقبل)، كرّاسات مستقبليّة، المكتبة الأكاديميّة، القاهرة 1997.
-          محمد عابد الجابري، التّراث والحداثة، دراسات...ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الخامسة، بيروت، مايو 2015.
-          الهادي التيمومي، تعليم الجهل في عصر العولمة والإصلاح التّربوي بتونس، دار محمد علي الحامّي، تونس، يوليو 2016.
-         BOURDIEU (P): le sens pratique, Ed, Minuit, Paris, 1980.
-         BOURDIEU (P): la distinction, critique social et jugement, Ed, Minuit, 1985.
-         BOURDIEU (P) et PASSERON (J.C): les héritiers, les étudiants de la culture, Ed, Minuit, 1985. BOURDIEU (P), BOLTANSKI (L), CASTEL (R) et CHAMBOREDON (J.C): un art moyen, essai sur les usages sociaux de la photographie, Ed, Minuit, Paris, 1965.
-         GOFFMAN (E): La mise en scène de la vie quotidienne, traduit de l’anglais par ACCRDO (Alain), ED, Minuit, 1973.
-         UNESCO: Technologies de l’Information et de la Communication en Education, un programme d’enseignement et un cadre pour la formation continue des enseignants.



[1] أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة: نصر الدين لعياضي والصادق رابح، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر 2005، ص  53
[2] UNESCO: Technologies de l’Information et de la Communication en Education, un programme d’enseignement et un cadre pour la formation continue des enseignants, p 500.
[3] BOURDIEU (P): le sens pratique, Ed, Minuit, Paris, 1980, p 170.
[4] أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 86
[5] جوديت لازار، سوسيولوجيا الاتّصال الجماهيري، ترجمة علي وطفه وهيثم سطايحي، دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1994، ص 67
حول التمايز الاجتماعي، انظر: مؤلّفات بورديو:
[6] BOURDIEU (P), BOLTANSKI (L), CASTEL (R) et CHAMBOREDON (J.C): un art moyen, essai sur les usages sociaux de la photographie, Ed, Minuit, Paris, 19655.
- BOURDIEU (P): la distinction, critique social et jugement, Ed, Minuit, 1985.
- BOURDIEU (P) et PASSERON (J.C): les héritiers, les étudiants de la culture, Ed, Minuit, 1985.
انظر بهذا الصدد:
[7] GOFFMAN (E): La mise en scène de la vie quotidienne, traduit de l’anglais par ACCRDO (Alain), ED, Minuit, 1973.
[8] الهادي التيمومي، تعليم الجهل في عصر العولمة والإصلاح التّربوي بتونس، دار محمد علي الحامّي، تونس، يوليو2016، ص 90
[9] محمد أديب غنيمي، شبكات المعلومات (الحاضر والمستقبل)، كرّاسات مستقبليّة، المكتبة الأكاديميّة، القاهرة 1997، ص 9
[10] الحبيب الدّرويش، دراسات في قضايا التنشئة والتمكين والاندماج بتونس، مطبعة التّسفير الفني، تونس 2010، ص 239
[11] الصادق رابح، الهويّة الرّقمية للشّباب بين التّمثّلات الاجتماعيّة والتّمثّل الذّاتي، مجلّة إضافات، العدد 19، تونس 2012، ص 92
[12] أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتّصال، مصدر سابق، ص 53
[13] شفيق رضوان، علم النّفس الاجتماعي، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت 2008، ص 150
[14] محمد عابد الجابري، التّراث والحداثة، دراسات...ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الخامسة، بيروت، ماي 2015، ص 33
[15] الصادق رابح، الهويّة الرّقميّة للشباب بين التّمثّلات الاجتماعيّة والتّمثّل الذّاتي، مرجع سابق، ص 108

المصدر: موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).