التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كتاب جاك دريدا "تاريخ الكذب": الكذب ينتمي إلى ما وراء المعرفة

عمار المأمون

 كتاب “تاريخ الكذب” للمفكر الفرنسي جاك داريدا عبارة عن محاضرة ألقاها دريدا في الكوليج دو فرانس عام 1997، وفيه يناقش الكذب كمفهوم وكتاريخ، طارحاً التساؤلات والصعوبات المرتبطة بتفكيك “الكذب” دون التورط فيه، إلى جانب تناول الآراء المرتبطة بالكذب ومفاهيمه منذ أرسطو وأفلاطون حتى القديس أوغسطين ونيتشه وكانط انتهاء بحنا أرندت.

صدر هذا العام

يقدم دريدا في كتابه، الصادر أخيرا عن المركز الثقافي العربي بترجمة رشيد بازي، في البداية اعترافاً للقارئ، إذ يستحضر نيتشة وكتابه أفول الأصنام ونص “تاريخ خطأ”، بوصف العنوان الذي قدمه لكتابه مستوحى من هذا النص، ثم نراه للإحاطة بالكذب كظاهرة إنسانية، وكعادته عند معالجة أي مفهوم، يحاول تعريفه وضبطه ثم تفكيك هذه التعريفات وتحديد مداها.
يبدأ المفكر من أصل الكلمة اللغوي، ثم المفهوم الكلاسيكي للكذب المرتبط بثنائية حقيقة –كذب، ليعود بعدها ليفنّد اللا-كذب، فالكذب لا يعني التدليس أو الخداع أو التزوير أو الخيال الشعري، بل هو حالة مختلفة لها مقوماتها شديدة التغيير وصعبة التعيين، وخصوصا في ما يتعلق بـ”الكذب على الذات” ومدى إمكانية وجود هكذا نوع من الكذب، وكأن وجود الكذب على الذات يعني انتفاء الوعي.

الكذب كنشاط بشري

يرتبط مفهوم دريدا عن الكذب بـ”فعل الكذب”، أو أقواله، فما لا يقال لا يمكن الحكم عليه إن كان كذبا أم لا، بل ويتساءل، إن كان في هذه المحاضرة لا يقول كل شيء، فهل هو يكذب، هل إخفاء المعلومات يعني كذبا من نوع ما، بالتالي، كيف يمكن محاكمة الصمت؟، ينتقد بعدها المفاهيم المثالية التي جاء بها كانط، وخصوصا الحق المطلق، أو الدافع للفضيلة والنقاء، كما يحاول تجنبها إلى جانب المفاهيم الدينية بوصفها أخلاقية وتعتبر الكذب خطيئة، إذ يرى أن الكذب يحيل إلى مفاهيم الخطأ والحقيقة، فالأول لا يرتبط بسوء النية أو الخداع، في حين أن الحقيقة مرتبطة بمطابقة القول للفعل أو الواقع، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا في العوالم المثاليّة، نظرا إلى استحالة نقل حقيقة واقعية/ فيزيائية بصورة كاملة إلى شكل لغوي سردا أو مشافهة.

لماذا نكذب

يركز دريدا على المنفعة بوصفها الأساس في دراسة الكذب، فإيهام الآخرين بحقيقة ما يعتبر كذبا، بشرط أن يدرك “الكاذب” أن ما يقوله لا يطابق الصواب أو الحقيقة، وهذا ما ينسحب على الممارسات السياسية التي يكرس الجزء الأكبر من الكتاب لمناقشتها، لكنه يشير قبل ذلك إلى الممارسات اليومية التي نقوم بها، والتي لا تعتبر حقيقية، بل خداعا من نوع ما، فهل تحاكم بوصفها “كذبا”، لأنها نظريا تهدف إلى المنفعة، لكن ما مدى أخلاقيتها؟
يُعتبر الكذب الأساس الذي تقوم عليه الأنظمة الشمولية، حيث تخلق أيقونات تدّعي الحقيقة وتروّج لها عبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها، لتخلق صورا عن الواقع، لكنها “كاذبة”، هدفها منفعة “الدولة”، لا الأفراد، بل ونراها تركز على عدم الاعتراف بهذه الأكاذيب، هنا يسوق دريدا الأمثلة السياسية التي عاينها شخصيا، كحالة الإنكار التي تمارسها فرنسا لجرائم حكومة فيشي ضد اليهود في فرنسا، كما نراه يقع بشخصه ضحية لـ”الكذب”، حين يُنسب له في مقال منشور في صحيفة عالمية، ادعاء أنه لم يطالب فرنسا بالاعتراف بهذه الجرائم ضد الإنسانيّة حسب وصفه، و”الكذب” لم يشمله فقط، بل طال مفكرين آخرين كسارتر وفوكو وبارت. هنا يناقش دريدا مفهوم الكذب والإعلام، وكيف يمكن حسب البنية الجديدة للاتصال تكريس “أكاذيب” بوصفها حقيقة.

سياسة الكذب

يعتمد دريدا بشكل أساسي في طروحاته عن علاقة الكذب بالسياسة على كتاب الباحثة حنّا أرندت “السياسة والحقيقة” وخصوصا في انتقادها للمقالات الصحافية المنشورة في كبريات الصحف والتي ترتبط بسلوك الولايات المتحدة، كما يناقش الكذب كحالة تاريخية ومنهج، فيشير إلى كتاب كفاحي لأدولف هتلر، بوصفه يستخدم لبناء صورة متخيلة/ كاذبة لتفوق عرق ما، ويكرس هذه الصورة لدى الجماهير، لأن هتلر كأيقونة، من المفترض أن يمتلك الحقيقة.
كذلك يسوق أمثلة عن الشعارات السياسية المعاصرة عبر تفكيكها لشرح تقنيات الكذب السياسي، وٍأساليب استخدامه، وكيف تحولت وظيفة وسائل الإعلام من نقل الأخبار إلى أرشفة الكذب، وكأن الحقيقة كما هي ليست موجودة، بل هناك ممارسات في سبيل تكوينها بالصورة المناسبة، لنقرأ في نهاية الكتاب التساؤلات المرتبطة بجدوى تاريخ الكذب ومدى تاريخانيته، هل ما يعتبر كذبا يعتبر لا تاريخيا، أم هو مجرد وهم، وهل الحقيقة الكاذبة إن تم الإيمان بها ينفي عنها صفة الحقيقة حتى لو كانت ذات مرجعية حقيقيّة لدى البعض.
بالرغم من محاولات دريدا للإحاطة بالمفهوم وتفكيك جوانبه، نراه لا يصل إلى نتائج مقنعة، ويعلل ذلك، بأن الكذب ينتمي إلى ما وراء المعرفة، التي هي بنية مغايرة للمعرفة الكلاسيكيّة، كذلك يتساءل عن إمكانية وجدوى وجود تاريخ “حقيقي” للكذب.

المصدر: جريدة العرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).