التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما بعد البنيوية وتذويت الحق في التدخل والقمع تحت مظلة الإرهاب

د. عادل زقاغ

1-   بداية بـ تفكيك ميشال فوكو للنظام العقابي الحديث ودوره في استباحة خصوصيات الأفراد

لا يهدف النظام العقابي الحديث إلى تحقيق مقاصد آنية كما القديم، فالصورة الشائعة في البنى الاجتماعية القديمة، هي أن يقوم الملوك والأباطرة بتنفيذ أحكام الإعدام أمام العامة لتكون عبرة لمن ينافسهم على العرش. أما النظام العقابي الحديث فهو يعتمد على طرق عقابية مبتكرة مثل الوضع تحت الإقامة الجبرية، الوضع تحت التصرف الإداري، واستغلال السجناء في أشغال غير مأجورة، جمع وتخزين المعلومات عن المتابعين قضائيا أو المعاقبين، وفي المحصلة جمع المعلومات عن الجميع في سياق تحريات تستهدف أقلية في المجتمع بحيث يتم ذلك بحجة تأمين الجميع ...
نقطة أخرى تتعلق باستفهام مشروع وحاسم في البحث الذي قام به "فوكو": هل نجحت السجون ومختلف النظم التأديبية الأخرى في تحقيق الهدف المرسوم لها وهو تأهيل السجناء وجعلهم أكثر انضباطا تمهيدا لاندماجهم مجددا في المجتمع ؟؟؟
الإجابة: لا، لم تنجح البتة، فأغلبية أصحاب السوابق لم يستطيعوا الاندماج بعد إطلاق سراحهم بل أن نسبة معتبرة منهم عاودت ارتكاب تجاوزات يعاقب عليها القانون، إذن، يقول "فوكو" لماذا شرعن النظام الاجتماعي للعقاب بالسجن، ولا يزال متمسكا بهذا النمط في مسعاه للحفاظ على البنية الاجتماعية الكلية رغم الإخفاق الذي أبداه السجن في المهمة المنوطة به، لكن لماذا يتم غض الطرف عن هذا الإخفاق؟
يجيب "فوكو" عن هذا السؤال بالقول أن الإبقاء على مؤسسة السجن رغم فشلها يعود إلى أنها نجحت في عملية "تذوت" يرعاها النظام الاجتماعي من خلال الخطاب المهيمن فيه، هذا "التذوت" يتعلق بفئة ذوي السوابق، بمعنى أن السجن قد أوجد فئة جديدة في المجتمع هي فئة "المنحرفين" الذين يشرعنون لاستخدام الدولة وسائل القسر، ويشرعنون أيضا لإقصاء فئة معينة من ممارسة الحقوق السياسية، والأهم من كل ذلك شرعنة تدخل السلطة السياسية بشتى الوسائل للحفاظ على البنية الاجتماعية كما هي...

2-   بريتون وودز و"تذويت التخلف"

دراسة أخرى لـ "إسكوبار" حول التنمية في العالم الثالث، وبعد بحث مستفيض في برامج التنمية، توصل "إسكوبار" إلى طرح السؤال ذاته الذي طرحه قبلا "فوكو"، لماذا يستمر العمل ببرامج التنمية في العالم الثالث رغم فشلها في تحقيق الأهداف المرسومة لها منذ نصف قرن تقريبا؟؟؟
يجيب "إسكوبار" بتوظيف ((منطق "التذوت")) أن استمرارها سمح بتمييز دول بعينها تحتاج إلى للتنمية والمساعدة على استنهاض قدراتها، إن هذا التذوت يجعلها تتقبل ما سينتج عن تصنيفها كدول دائمة الحاجة للمساعدة، وهو القبول بتدخل الدول الغنية والكبرى، إذن فبرامج التنمية "الفاشلة" الهدف منها هو شرعنة التدخل من أجل استمرارية النهج القائم والذي يخدم دولا معينة دون أخرى...

3-   الإرهاب وتذويت حتمية التدخل والقمع 

لطالما قدم بعض المحللين تفسيرات متباينة للصمت الغربي المحير إزاء تشكيل داعش وتنامي قوتها، لكن قد يحاجج البعض بكون الأمر مجرد فخ يفترض أن يسهل عملية جمع المتطرفين من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مكان واحد يسمح بإبادتهم بعد أن يقوم هؤلاء باستنزاف القوى الإقليمية في شكلها الصلب فضلا عن تدجين القوى المجتمعية حبيسة القروسطية !!
سؤال جدير بالطرح: لماذا استمر ما يسمى بفلول الإرهاب أو بقايا الإرهاب لعقود رغم أن الليفياتان أضحى أكثر قوة بامتلاكه مقومات القوة الناعمة والصلبة ولآليات عبر دولية وتنسيق استخباراتي وأجهزة تنصب وتحسس ذات كفاءة غير مسبوقة وكاميرات مراقبة ترصد كل شيء وبطاقات ممغنطة تمنح الحكومات معطيات دقيقة عن أنماطنا الاستهلاكية والاستطبابية و و و ؟؟؟ الجواب هو أنها تساعد على تذويت حتمية التدخل والقمع ...
فإذا كانت هكذا سياسات تساهم في زيادة مبيعات السلاح لمحميات النفط وإيجاد مبررات قوية لاستمرار منطق الوصاية السياسية على أنظمة المنطقة لكن هذه المرة بترحيب شعبي، وكذلك شرعنة التدخل الهادف (ليس لاحتلال الفضاءات الجغرافية بل) لاختراق البنى السوسيو-ثقافية؛ فإن الارتداد الارتجاعي الحتمي لها في الأراضي الغربية من هجمات انتقامية ستساعد على شرعنة السياسات العنصرية ضد المهاجرين، شرعنة السياسات الانغلاقية تجاه تدفق مزيد من المهاجرين، ولكنها أيضا ستضمن تمرير حزمة من التدابير التي تجعل من تجميع المعلومات على عموم المواطنين شيئا متقبلا بل ومطلوبا في سياق حماية الجميع وصيانة النظام العام ...

بتبني طرح مماثل، فإن هجمات 11 سبتمبر ومشتقاتها الباريسية مرورا عبر أفلام SAW الداعشية بتقنية اتش دي، لا تعدو أن تكون رموز سيميائية عميقة الأثر، عالية الجودة، وهي مصممة لاستيطان الخارطة الإدراكية للضحية قبل المتفرج، والهدف منها إقناع قاطني الشرق الأوسط بأحقية الغرب في التدخل في شؤونهم، وبأن إبادتهم وقمع جالياتهم في البلدان الغربية يجب أن يكون بالنسبة لهم مطلبا، وللمتبقين منهم مكسبا...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).