التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التكنولوجيا والمواطنة

يحي اليحياوي

ثمة ثلاث ملاحظات أولية،لا بد من تقديمها هنا، ولو من باب الاستهلال الخالص:
+ الأولى: هناك انبهار متزايد وشديد بالتكنولوجيا، كل التكنولوجيا، سيما تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال، حتى بات كل من لا يتحدث اللغة التقنية أو بعضا منها، يعتبر خارج العصر وخارج منطق العصر. فبات العديد من الخاصة ومن العوام أيضا، يكتبون عن الثورة الرقمية، وعصر الصورة، ومؤخرا بالعالم العربي، عن تأثير بعض وسائل الاتصالات على حجم ووتيرة الانتفاضات الشعبية الدائرة بهذا القطر أو ذاك.
+ الملاحظة الثانية: التكنولوجيا عموما، وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال تحديدا، غالبا ما يتم ربطها قسرا بمجالات معرفية معينة، قد لا تكون بينها وبين هذه الأدوات علاقة كبيرة تذكر, فنجد بالتالي حديثا عن الأدب الرقمي وعن الشعر الرقمي وعن غيرهما، ولكأن تواجد نص ما بالشبكات الرقمية، هو كفيل لا بل وكاف، للتدليل على أنه بات مندغما فيها أو منصهرا معها.
+ الملاحظة الثالثة: ليس هناك تأصيل لطبيعة العلاقة أو العلاقات التي تربط تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال بالعديد من الحقول المعرفية، بل ثمة اكتفاء بمظاهر هذه العلاقة إن وجدت أصلا، والبناء عليها للادعاء بالمحصلة بأن ثمة رابط أو روابط بينها وبينهم. أعتقد أننا بحاجة قصوى لتجاوز الخطابات الحماسية، والانبهار المبالغ فيه عند أي تحليل.
هذا المقال ليس بحثا في سوسيولوجيا التكنولوجيا ولا في حدودها، بل هو محاولة لفهم طبيعة العلاقة بين التكنولوجيا عموما، وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال تحديدا من جهة، وبين الديموقراطية والمواطنة من جهة أخرى.
ويبدو لنا أن مقاربة من هذا القبيل إنما تتطلب استحضار العناصر الأساسية التالية:
+ العنصر الأول ويكمن في حقيقة أن معظم الديموقراطيات التمثيلية إنما تعيش اليوم، وضعية أزمة وتأزم حقيقيين، إما بسبب تراجع منسوب المواطنة من بين ظهرانيها، أو نتيجة الخلل الذي تعرفه المؤسسات السياسية القائمة عليها، لهذا السبب أو ذاك.
في ظل هذا الواقع، برزت قناعة مركزية مفادها أن التكنولوجيا، بحكم تيسيرها وتسهيلها لسبل تنقل المعلومات والمعطيات، وفسحها في المجال للتواصل الواسع والعريض، إنما من شأنها أن تحول أو تقلص من "الخصاص الديموقراطي" القائم أو المحتمل.
عبارة "الديموقراطية الافتراضية" التي ترتبت عن هذا الخطاب، ارتكزت على الاعتقاد بأن المساهمة المباشرة للمواطنين في النقاش الديموقراطي، بحكم توفر التقنيات التفاعلية، من شأنها تقوية مبدأ المواطنة، وإشراك المواطنين في المناقشة العامة، المفروض إعمالها قبل اتخاذ القرار.
الملاحظ هنا أمران: أن الديموقراطية الافتراضية، أعني الموظفة لشبكات المعلومات، جاءت فقط كمعطى لتجاوز حالة الخصاص الديموقراطي القائم. ثم أنها جاءت لتركز على بعد أساس، بعد المواطنة، باعتباره صلب الديموقراطية وجوهرها وقلبها النابض.
+ العنصر الثاني ومفاده أن الديموقراطية كانت بصيغتها اليونانية على الأقل، كانت ديموقراطية مباشرة، ثم تحولت فيما بعد إلى ديوقراطية تمثيلية، ترتب عنها بالأساس ممارسة المواطنة من لدن ممثلين يختارهم الشعب ويرتضي حكمهم.
اختيار الشعب لممثليه يستوجب الثقة، لكنه يستوجب أيضا أن يكون الشعب محتكما إلى المعلومات والمعطيات التي تمكنه من مراقبة ومحاسبة ممثليه... وهذا ما حاولت تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال توفيره حاليا، من خلال الإنترنيت والشبكات الرقمية وغيرها.
نلاحظ بهذا العنصر, أن التكنولوجيا لا تخلق المواطنة، بقدر ما تعمل على تقويتها، وأن التكنولوجيا لا تقوي الديموقراطية مباشرة، بل تقوي بصلبها المواطنة، التي باتت في أزمة حادة ومتزايدة.
+ العنصر الثالث، والمكمل للعناصر السابقة، ومفاده التساؤل التالي: هل من شأن تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال أن تسهم في تجاوز أزمة التمثيلية، ثم أزمة المواطنة، ثم أزمة المستويات الوسيطة من أحزاب ونقابات وغيرها، بلغت من العجز والهون مبلغا متقدما؟
العديد من الآراء والطروحات تتبنى السؤال بصيغته الإيجابية، وتقول بأن المستجدات التكنولوجية ستعيدنا حتما للزمن الديموقراطي الذي عاشه الإنسان بأثينا من عشرات القرون.
هذه الآراء والطروحات ليست خاطئة بالمرة، لكنها ذات خاصية انبهارية وحماسية مبالغ فيها.
بالمقابل، نجد أن هناك العديد من الآراء ترى فيما سبق، مقاربة تقنية صرفة، تضع علاقات سطحية بين التقنية والديموقراطية، وبين المعلومة والديموقراطية أيضا.
أما المؤاخذة الثانية على هذه الطروحات، فمفادها القول بأنه لا يمكن أن نختزل الرأي العام في كميات من المعلومات، كبر حجمها أم صغر...بدليل، يقول هؤلاء، إننا نحتكم اليوم على أحجام ضخمة من المعلومات والبيانات والمعطيات، لكننا مع ذلك لا نستطيع ممارسة مواطنتنا، باعتبارها "مهنة السيادة" بالبداية وبالمحصلة النهائية.
بالتالي، يتابع هؤلاء، فالمعلومات تطعم الرأي العام، لكنها لا تستطيع اختزاله أو النيابة عنه.
هذا ناهيك عن الآراء التي ترى في هذه الطروحات مصادرة للعبة الديموقراطية من لدن من لهم المقدرة على بلوغ الشبكات والحصول على المعلومات... في حين أن الإسهام في تدبير الشأن العام هو عملية تهم الجميع، وليس فقط من يتوفر على المعلومة.
نتصور، بالبناء على ما سبق، بأن التكنولوجيا لا يمكن أن تجد حلا أو حلولا للخلل الذي يطاول الديموقراطية والمواطنة، لكنها قد تستطيع تقويتهما عن طريق ثلاثة مداخل أساس:
+ الأول ويتعلق بدورها في تكوين الرأي العام، ثم المواطنة، عبر تمرير المعلومات التي من شأنها أن تغذي هذا الرأي وتغنيه.عنصر التفاعلية بهذا الجانب أساسي ومهم.
+ المدخل الثاني: تقوية الرأي العام من شأنه أن يفرز تدريجيا سلطة مضادة بالشبكات، عبر المنتديات والمواقع والمدونات والفضاءات الاجتماعية وغيرها. لكن هذا يستوجب التذكير بأمرين اثنين: الأول أن الشبكات الرقمية لا تخلق العلاقات الاجتماعية، بقدر ما ترفع من نجاعتها وقدرتها على الفعل. والثاني هو أن الشبكات الرقمية بقدر ما تعمل على تنظيم هذه العلاقات وهيكلتها، بقدر ما توفر لها السبل بجهة تصريف خطابها.
+ المدخل الثالث: الخشية كل الخشية أن يشعر المرء، وهو يصوت عن بعد مثلا، أو يدلي بصوته في استفتاء ما، أن يشعر بأنه يمارس حقا مواطنته...المفروض هنا أن يسهم برأيه ويناقش آراء الآخرين أيضا، وإلا لاختزلنا المواطنين في بضعة أفراد أو جماعات لديهم القدرة على الارتباط بالشبكة، ثم التنظيم بداخلها، وبالتالي الدفع بآراء وأفكار قد تكون ذات طبيعة فئوية، أو تهدف للضغط من أجل إدرك مصالح، قد لا تصب دائما في مصلحة الديموقراطية، أو تسهم في الرفع من منسوب المواطنة... المتأزمة.

المصدر:
موقع يحي اليحياوي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).