تماما كما بدأ العام كئيبا متشائما مثقلا بجرّ أذيال الفضيحة
وتبعاتها التي لاحقت النظام اللبرالي على إثر الأزمة الإقتصادية المالية
العام الماضي، ها هو يودّعنا على نفس الألحان الحزينة، وفي نفس الأجواء
الفضائحية. ولكن السبب هذه المرة هو موقع الكتروني على الشبكة العنكبوتية
اسمه "ويكيليكس"، أسّسه استرالي يقال أنه يساري حد النخاع، وناقم على
الليبرالية المتوحّشة حد التطرف اسمه "جوليان اسانج".
هذا الرجل
"السوبرمان" ومن خلال نشره للوثائق المسرّبة (المسروقة) قد كشف عدة حقائق
وفضح عدة أمور يمكن إيجازها في النقاط الآتية:
أولا/ لقد كشفت هذه الحادثة بما لا
يدع في الأمر شكّ عن القوة الرهيبة التي تتمتع بها الانترنت، والقدرة
الكبيرة التي تمتلكها للكشف والفضح والتعرية.. منذرة / مبشّرة بعهد جديد
متشبّع بقيم جديدة أهم علامة تؤشر عليه هو حذف ما يسمى بالخصوصية أو
الأسرار من قاموس الحياة المعاصرة. وهذا ما يجعل من الانترنت – كما يتمنى
المتفائلون- "أغورا** يونانية جديدة" ستفتح الأبواب والنوافذ،
بل وتهدّم الجدران أمام حرية التعبير وتبادل الآراء دون إقصاء.
ثانيا/ لقد كشفت الوثائق
المنشورة على موقع وكيليكس الغطاء عن النظرة الدونية التي تنظر بها
الولايات المتحدة الأمريكية للعرب بشكل خاص، فهي لم ترسل دبلوماسيين وسفراء
بقدر ما أرسلت جواسيس مهمتهم نقل أدق التفاصيل عن الدول التي يتواجدون بها
وعن حكام هذه الدول، وما يفكرون أو يهمسون أو ينوون أو يحلمون به..فضلا
عما يتفوهون به أو يتذمرون منه.
ثالثا/إن موقف بابا الفاتيكان –ذو السوابق-
المعارض لانضمام تركيا التي تضم 74 مليون مسلم للاتحاد الأوروبي، والذي
كشفت عنه تسريبات ويكيليكس ليفضح نظرة الغرب للمسلمين ونفاقهم حين يدعون
إلى حوار الأديان، بل ويفتح قوسا دون غلقه لنظرية صراع الحضارات..
رابعا/ كما أن الموقع قد
فضح الأنظمة العربية وكشف عوراتها التي حاولت دائما أن
تخفيها بأوراق من الكبت والرقابة، وبدا واضحا كم أصبح عصيا على القادة
العرب تحديد العدو وتوحيد النظرة اتجاهه، وكيف يحدث ذلك والعلاقة بينهم
أشبه بعلاقة الجارات وحديث ونميمة وغيرة الجارات.
خامسا/ لم تنج وسائل الإعلام
العربية، من أخذ نصيبها من كعكة الفضيحة، فانتقائيتها في تقديم الوثائق
للجمهور العربي ضرب مهنيتها التي لا تستحي بالتغني بها عرض الحائط، إذ يكفي
أن تشاهد ما تعرضه فضائية معينة من الوثائق المسرّبة حتى تكتشف دون كثير
عناء عمن يقف وراءها والأجندة التي تخدمها.
سادسا/الموقع وبعد أن فضح الجميع،
فضح نفسه أيضا فاختيار هذا الوقت بالذات لنشر الوثائق التي أُعلن عنها منذ
أسابيع لأمر يدعو إلى الرّيبة، خاصة وأن إسرائيل لم تتأثر من عملية النشر،
وهذا ما جعل حسين جليك نائب رئيس وزراء تركيا يتهم إسرائيل صراحة بأنها من
يقف وراء التسريبات التي خدمت بشكل أساسي نظرية نتنياهو فيما يخص عملية
السلام فيما يسمى بالشرق الأوسط.
وأخير لم يبق إلاّ صاحب الموقع
ليُفضح، وذلك ما حدث فعلا مع التهمة الموجهة إليه من قبل سيدتين بمحاولة
الاغتصاب. ولكن عدم توجيه التهمة إلا بعد نشر ما يقارب 250 ألف وثيقة جعل
الكثيرين ينظرون إلى الأمر على أنه محاولة تضييق على الحريات، وهو ما دفع
أنصار الرجل إلى التهديد بحرب الكترونية شعواء لا تبقي ولا تذر. ما جعل
الولايات المتحدة الأمريكية وسدنة النظام اللبرالي يقفون مذهولين مشدوهين
أمام هذه المعضلة، فالسوبرمان جوليان اسانج قد استخدم السلاح الذي وفره له
نفس النظام الذي يحاربه وهو "حرية التعبير"، ولسان حاله يخاطب محاولات
إسكاته:
لا تنه عن خلق
وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر المقال في مجلة الفرسان،
العدد الخامس من 15 إلى 31 ديسمبر 2010م، الجزائر.
** ساحة عامة تنعقد فيها المجالس
السياسية في المدن الإغريقية القديمة، وهي بمثابة رمز لحرية التعبير.
تعليقات
إرسال تعليق