التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تحديات تواجه نظرية الحتمية القيمية في الإعلام


ملاحظة: هذه المداخلة ألقيتها بملتقى الأغواط المنعقد يومي 2 و3 ديسمبر 2013م، تحت عنوان: نظريات الإعلام المعاصرة (بين التنظير الغربي والتطبيق داخل البيئة العربية).
 
أ. باديس لونيس
جامعة  باتنة
Badis.lounis@gmail.com

مقدمة:

كانت مداخلتي في الملتقى الأول حول نظرية الحتمية القيمية بمستغانم، بعنوان: نظرية الحتمية القيمية في الإعلام (نحو براديغم إعلامي متميز) وهو العنوان الذي يبدو موغلا في الحفاوة بالنظرية والتحمس لها، وكنت قد توصلت من خلال تلك الورقة إلى أن النظرية قد جمعت من الخصائص والركائز ما يشدّ عودها، ويجعلها ناضجة نظريا، حتى تكون براديغما إعلاميا متميزا ولكنها كأي منظور علمي آخر، هناك مجموعة من التحديات التي لازالت تواجهها كقلة الدراسات الميدانية الامبريقية، وتراوح مساهمة الباحثين على مستوى التعريف بالنظرية فقط دون التحلي بالجرأة الكافية للمبادرة والإثراء،  وتحديد مفهوم القيم تحديدا واضحا وتقسيمها تقسيما مقنعا، بالإضافة قلة الدراسات حولها باللغات الأجنبية.

هذه التحديات هي ما يجعل من النظرية في حالة من الحركية العلمية الدائمة وبالتالي التطور أكثر فأكثر، ولكن لن يكون لها ذلك لو بقي الأكاديميون على مستوى الجامعات العربية والإسلامية متمسكين ببعض عقدهم النفسية التي يأتي على رأسها (مركب النقص، الانهزامية، الذاتية، وحتى الغيرة..)، دون أن يحاولوا التخلص منها والاقتراب من النظرية متحلين بالموضوعية التي طالما تغنوا بها في عملية نقلهم للمعارف الغربية وانبهارهم بها.
بالإضافة إلى هذه النتيجة تأتي فكرة مداخلتي مستندة إلى كتاب (عبد الرحمن عزي) الموسوم بـ : "حفريات في الفكر الإعلامي القيمي" المنشور عام 2011م، والذي استعرض فيه فكر أربع شخصيات من التراث والواقع المعاصر قصد إبراز إسهاماتها واستنباط تلك الأدوات المعرفية التي يمكن أن تسهم في فهم الظاهرة الإعلامية والاتصالية في أبعادها القيمية والإنسانية، إضافة إلى محاولة تحديد محطات معرفية يمكن من مصادر الفكر القيمي في الإعلام.
فعبد الرحمن عزي قد تأثر بمجموعة من العوامل والمدارس والأفكار والرؤى والشخصيات؛ الدين الإسلامي ( القرآن، السنة)، شخصيات إسلامية (ابن خلدون، ابن رشد، مالك بن نبي، النورسي)، شخصيات غير إسلامية (صن تسو، بيار بورديو)، مدارس (الظاهرتية، التفاعلية الرمزية). هذا الأثر قد يصل إلى الحد الذي قد يجعل البعض يعتقدون انه لم يأتي بجديد يذكر.
انطلاقا من هذه النقطة التي صارت أكثر الحاحا علي بعد احتكاكي ببعض من يعارض النظرية ومناقشتي معهم لبعض افكار النظرية، جاءت هذه المداخلة لتطرح بعض التحديات التي تواجه النظرية لتدارسها ومناقشتها واثارة الانتباه اليها من منطلق النقد الذاتي الواعي، المبني على الموضوعية دون الوقوع في فخ الانحياز والحماسة الزائدة.

أولا/ التعريف بنظرية الحتمية القيمية في الإعلام:

1- من هو عبد الرحمان عزي؟

تحصل المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي على شهادة الليسانس في الصحافة من جامعة الجزائر عام (1977) وعلى شهادة الماجستير في الصحافة عام (1980) وعلى الدكتوراه في سوسيولوجيا الإعلام عام(1985) من جامعة نورث تكساس بأمريكا. وقبل ذلك، عمل الأستاذ محررا (تغطية الأخبار المحلية) في جريدة "الشعب" اليومية (الجزائر) لمدة سنتين. و تتجاوز خبرته في التدريس و البحث و الإشراف 24 سنة إذ عمل كمدرس لمدة 3 سنوات في جامعة نورث تكساس ، ثم كأستاذ مساعد فأستاذ مشارك فأستاذ لمدة 11 سنة بمعهد علوم الإعلام و الاتصال، جامعة الجزائر ثم كأستاذ لمدة 3 سنوات بقسم الاتصال بالجامعة العالمية الإسلامية ماليزيا ثم كأستاذ بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود لمدة 4 سنوات، أستاذ بقسم الاتصال الجماهيري بجامعة الإمارات العربية المتحدة لمدة 4 سنوات، ثم أستاذ بكلية الاتصال، جامعة الشارقة منذ 2006 ([1]).

2- نشأة نظرية الحتمية القيمية في الإعلام ومفاتيح فهمها:


رغم أن جل دراساته -منذ أول دراسة كتبها عندما عاد إلى الجزائر عام 1985م- تميزت باستناده إلى انتمائه الحضاري([2])، إلا أن عبد الرحمن عزي صرّح أنه بدأ فعليا تحديد مسار نظريته بتقديم النظرية الاجتماعية الغربية الحديثة وتكييفها مع الواقع الجديد وعلاقاتها بالاتصال، في كتابه: "الفكر الاجتماعي المعاصر والظاهرة الإعلامية الاتصالية: بعض الأبعاد الحضارية"([3]). أما عن تسميتها بـ: "نظرية الحتمية القيمية في الإعلام فيعود الفضل في ذلك إلى طالبه وزميله الآن في جامعة الشارقة الأستاذ الدكتور نصير بوعلي([4]). وذلك بعد معارضتها بالحتمية التكنولوجية لمارشال ماكلوهان في دراسة مهمة قام خلالها بمقارنة قيمة بين النظريتين([5]).

3- مفاتيح قراءة النظرية:

ولقراءة النظرية وفهمها فهما صحيحا قدم نصير بوعلي  في إحدى دراساته* ما اصطلح عليه "بمفاتيح" النظرية، وتتمثل هذه المفاتيح استنادا إلى المقاربة البنيوية في:([6])
- إن نظرية الحتمية القيمية في الإعلام كبنية تتضمن عناصر البناء التالية:
أ- علوم الإعلام والاتصال كمادة خام.
ب- الفكر الاجتماعي المعاصر في القرن العشرين كمادة مستوردة.
ج- التراث العربي الإسلامي على سبيل الاجتهاد وليس النقل كمادة محلية.
د- القرآن الكريم بمثابة الاسمنت الذي يمسك النظرية بإحكام.
- أسبقية النظرية ككل على الأجزاء: فنظرية الحتمية القيمية في الإعلام هي ذلك الكل المركب من دراسات وأبحاث نظرية عبد الرحمن عزي، ويستحيل فهمها ما لم يكن هناك إلمام بعدد معتبر من دراساته التي تزيد عن خمسين دراسة تنطلق كلها تقريبا من إشكالية واحدة هي كيفية فهم الظاهرة الاتصالية والإعلامية فهما قيميا وحضاريا.
- أسبقية العلاقة على الأجزاء أو القيمة المحددة لها: تتضح هذه النظرية أكثر عند إمعاننا النظر في العلاقة التي تحكم دراسات عزي عبد الرحمن، لأن ذلك سيقود إلى التغلغل في الدواخل وتوليد المعاني العميقة للنظرية(...) وتعتبر القيمة هي الحلقة أو العلاقة بنيويا التي تمسك أبحاث المفكر وتجعلها مساقط لا تتحرك إلا ضمن دائرة النظرية.
- إن عناصر نظرية الحتمية القيمية لا تحمل أي معنى إلا في إطار السياق العام؛ أي يجب استحضار العوامل الاجتماعية والثقافية والحضارية والتاريخية التي ساعدت على تبلور هذه النظرية.

4- افتراضات وركائز النظرية:

تنطلق النظرية من افتراض أساس يعتبر الإعلام رسالة وأهم معيار في تقييم الرسالة هو القيمة التي تنبع أساسا من المعتقد. ولذلك فإن تأثير وسائل الإعلام يكون إيجابيا إذا كانت محتوياتها وثيقة الصلة بالقيم، وكلما كانت الوثائق أشد كان التأثير إيجابيا. وبالمقابل، يكون التأثير سلبيا إذا كانت المحتويات لا تتقيد بأية قيمة أو تتناقض مع القيمة، وكلما كان الابتعاد عن القيمة أكبر كان التأثير السلبي أكثر ([7]). ويعتبر مفهوم السالب والموجب من بين المفاهيم الجديدة التي قدمها عبد الرحمن عزي بالإضافة إلى المخيال الإعلامي (في مقابل الرأي العام)، والزمن الإعلامي، والرأسمال الإعلامي الرمزي، والوضع و الخيال "والتمعقل" (من استخدام العقل)  وفعل السمع والبصر، والبنية القيمية وغيرها([8]). وهي بمثابة مباحث فرعية يرتكز عليها النسق الكلي وهو النظرية.
أما أهم الركائز –المبدئية- التي تقوم عليها النظرية فتتمثل حسب عبد الرحمن عزي في: ([9])
· أن يكون الاتصال نابعا ومنبثقا من الأبعاد الثقافية الحضارية التي ينتمي إليها المجتمع.
· أن يكون الاتصال تكامليا؛ فيتضمن الاتصال السمعي البصري، والمكتوب والشفوي الشخصي، مع التركيز على المكتوب لأنه من أسس قيام الحضارات.
· أن يكون الاتصال قائما على مشاركة واعية من طرف الجمهور المستقبل لا أن يكون أحاديا متسلطا.
· أن يكون الاتصال دائما حاملا للقيم الثقافية والروحية التي تدفع الإنسان والمجتمع إلى الارتقاء والسمو.

5- ماذا عن الإعلام الإسلامي؟

يحاول البعض عن عمد أو دون من التلميح في أن نظرية الحتمية القيمية هي نفسها نظرية الإعلام الإسلامي ولكن بتسمية مخالفة فقط. لذلك تجدر الإشارة هنا في أنهما نظريتين مختلفتين وإن كان هناك ما يجمعهما وهو الانتماء الحضاري لهما.
إذن فنظرية الحتمية القيمية في الإعلام ليست هي ما اصطلح على تسميته "نظرية الإعلام الإسلامي" حيث يرى عبد الرحمن عزي في معرض إجابته عن أحد الأسئلة الموجهة إليه على الموقع الالكتروني الخاص به   أن الفرق بين الاتجاهين يكمن: ([10])
 أولا/ في المنهجية، فالإعلام الإسلامي يقوم على سرد النصوص بذاتها دون إتباع منهجية محددة في قراءة النص أو ربطه بواقع الظاهرة الإعلامية المعاصرة، وكان ذلك عاملا في وصول هذا الطرح إلى طريق شبه مسدود، حيث لم ينتج نصا معرفيا بارزا، وإنما توقف عند باب الوعي بالمشكلة. أما الحتمية القيمية في الإعلام فتوظف عدد من الأدوات المنهجية التي ولدتها النظريات الاجتماعية والاتصالية الحديثة في الغرب، فهي تسعى إلى التجديد في قراءة النصوص وربط ذلك بواقع الظاهرة الإعلامية القائمة في المنطقة العربية والإسلامية.
ثانيا/ أن تقليد الإعلام الإسلامي يكاد يقصي التجربة الغربية (الأكاديمية أو الممارسة في الميدان)، أما الحتمية القيمية فهي تتفاعل مع المعرفة الإعلامية الغربية بشقيها وتحاول أن تطرح نفسها بوصفها صوت آخر يتعايش وينافس النظريات القائمة؛ أي أنها تسعى إلى تجاوز صفة المحلية إلى إيجاد مكان لها في التراث المعرفي الأكاديمي السائد لدينا وفي الغرب.
ثالثا/ أما بالنسبة للتسمية ذاتها، فالاستخدام اللفظي المباشر في القول "الإعلام الإسلامي" قد يوحي أن الأمر:
أ-خطاب أكثر منه علم.
ب-أنه أمر محلي ديني بحت كالقول "الإعلام المسيحي" مثلا.
ج-انه أمر مطلق ليس فيه مجال كبير للجدل والنقاش.
أما تعبير "الحتمية القيمية في الإعلام" فتحل هذه المعضلة إلى حد كبير، لأنه يجعلها جزء من اللغة الأكاديمية العلمية، وهي ليست محلية إذ ترى أن القيمة هي المحرك في التطور الحضاري لأي مجتمع. يضاف إلى ذلك أن الاستخدام اللفظي غير المباشر في الإشارة إلى "القيمة" يترك بعض المجال للخطأ المحتمل الذي ينسب في هذه الحالة إلى النظرية وليس إلى مصدر النظرية.
رابعا/ أن تقليد "الإعلام الإسلامي" وبفعل التركيز على السرد النصي فحسب لم يحدث حالة من البحث العلمي التطبيقي المعتبر، ولعل نظرية الحتمية القيمية في الإعلام تدفع إلى هذا الاتجاه بالاستعانة بالأدوات المنهجية التي تطورت لظروف تاريخية في الغرب.

ثانيا/ أهم التحديات التي تواجه نظرية الحتمية القيمة:

1- مشكلة القيم:

لعل الانتقاد الأساس الذي سيوجهه منتقدي النظرية هو في مدى علمية موضوعها (القيم)، انطلاقا من التيارات العلمية السائدة، والتي تعتبر العلم هو دراسة الواقع، لا دراسة ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع.
فلقد هيمن طموح في القرن العشرين لجعل العلوم الاجتماعية فعلا "علمية" بهدف ضمان وضعية مشروعة لها في المؤسسات الأكاديمية. وقد اشتغلت العقيدة الوضعية في محاولة منها في أن تطهر التساؤل السوسيولوجي والامبريقي من القيم، وأيضا حاولت أن تتجاهلهم جملة وتفصيلا، ا وان تسمح فقط بمعطيات حول الوعي الاجتماعي تم الكشف عنها من خلال الأبحاث ودراسات الرأي العام حول القيم، عبر مسافة، وبـ "برودة" مفصولة، واتجاه وصفي خالص([11]).
وعموما فقد شكل التمييز بين الخطاب العلمي والخطاب الموجه نحو الوقائع والخطاب الأخلاقي والمعياري منذ فترة الآباء المؤسسين للسوسيولوجيا صعوبات جمة، وشكل مشكل أحكام القيمة في التفكير السوسيولوجي أحد الألغاز الخالدة في العلوم الاجتماعية.
ويمكن ملاحظة أن موضوع القيم قد سجل حضوره في السوسيولوجيا الغربية وفق ثلاثة أشكال:
- القيم باعتبارها تحيزا فردية، ذاتية.
- القيم باعتبارها إيديولوجيا.
- القيم باعتبارها جزء من المعنى.
ولكن عبد الرحمن عزي يكون بنظريته قد تجاوز هذه الأشكال إلى جعل القيمة ليست فقط موضوع يدرس أو مجموعة من الأحكام الأخلاقية التي على الباحث أن يتحلى بها، أو حتى سياقا إيديولوجيا، ولكنه جعلها المتغير والمنظور والمنهج والرؤية  التي تحكم كيفية النظر إلى الظاهرة وكيفية الاقتراب منها ودراساتها. وهذا في العرف العلمي فعل صادم وثوري لا يمكن تقبله بسهولة وبساطة.

2- مشكلة الحتمية:

لعل المشكلة الثانية الأكثر أهمية والمشجب الذي قد يعلق عليه المنتقدون للنظرية انتقاداتهم هو مصطلح "الحتمية". الذي يعرفه عبد الرحمن عزي على انه يعني: "عملية اعتماد متغير واحد من دون المتغيرات الأخرى في تفسير الظواهر" ([12]).
ويرى أن نظرية الحتمية القيمية تنطلق من "القيمة" كمتغير أساسي في تفسير وفهم الظاهرة الإعلامية، ويعني ذلك أن أي عنصر أو ظاهرة إعلامية يفسر أو يفهم من حيث قربه أو بعد من القيمة، وتعتبر هذه النظرية أن المتغيرات الأخرى مثل الفعل الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي، الخ. "مكملة" أي تابعة([13]).
إذ كيف يعود الحديث إلى الحتمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية في الوقت الذي يكون العالم قد كتب نهاية الحتميات، حتى في العلوم الطبيعية والفيزيائية. إذ يقول برونوفسكي: "إن أحد أهداف العلوم الطبيعية إعطاء صورة دقيقة عن العالم المادي وأحد منجزات الفيزياء في القرن العشرين هو البرهان على أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه"([14]).
ثم إنه من الصعوبة بما كان عزل العوامل الأخرى ووصفها بالثانوية دون دراسات امبريقية جادة وصارمة تراعي الاختلاف المكاني والزماني وتتبع الأثر على المدى الطويل وليس القصير.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإننا حتى بإقرارنا أن القيم والأخلاق موجودة في الإنسان بالفطرة، وأن المنطق يؤكد البعد الإنساني المشترك في القيم، فالإنسان لا يقبل مثلا أن يوصف بالظلم أو الخيانة أو الكذب، مهما كان انتماؤه، إلا أنه لا يمكننا في المقابل أن ننكر أيضا أن الواقع يثبت اختلافا في فهم وممارسة بعض القيم كالحرية مثلا، القوة، المصلحة، والتفوق،..وظهر على السطح صراع بين القيم التي لها الأحقية في أن تسود العالم وهو ما أسماه صامويل هنتنغتون بصراع الحضارات في مقالته ذائعة الصيت بمجلة شؤون دولية (1993م)، ويرى أن الغرب قد بدأ في الانهيار لأنه يفقد قيمه([15]). والى عهد قريب كان ولازال بعض المفكرين يدّعون تفوق القيم الغربية والأمريكية على الخصوص، وضرورة أن تتبنى الشعوب الأخرى هذه القيم بوصفها صارت "قيما عالمية".
في هذا الإطار نجد أن نظرية الحتمية القيمية أمام محك تحديد هذه القيم وتعريفها بدقة، في وقت جاءت أفكار ما بعد الحداثة فجعلت من نسبية القيم "قيمة مطلقة"([16]). وهو ما قد يدخلها بدورها في دوامة صراع الحضارات، لا حوار الحضارات التي يدعو إليها عبد الرحمن عزي.

3- مشكلة المنهج:

تعتبر المنهجية الركيزة الأساسية للنظريات التي تطمع إلى الارتقاء إلى منظورات وبراديغمات شاملة، ولعل كتاب عبد الرحمن عزي منهجية الحتمية القيمية في الإعلام جاء ليسد هذا الفراغ، وليرد على سؤال الأنصار والمنتقدين حول خصوصية منهجية نظريته، ولكن الكتاب جاء مقتضبا في إجابته، لم يحمل الجديد إلا فيما يخص مقياس (ع ن س) للقيم.
وهو في حقيقة الأمر نتيجة لتراكم مقاييس وضعت من قبل، كمقياس ألبورت وفيرنون ولندزي الذين يقسمون القيم إلى([17]):
1- القيم الاجتماعية: التي تهتم بالنواحي الاجتماعية والعلاقات بين الأشخاص.
2-  القيم النظرية: والتي ترتبط بالحقيقة والمعرفة.
3-  القيم الاقتصادية: وترتبط بالنواحي المادية والمالية.
4-  القيم الجمالية: وترتبط بالشكل والتناسق.
5-  القيم الدينية، وترتبط بالمعتقدات والسلوك الديني.
6-  القيم السياسية: وترتبط بالمركز والسلطة.
ويبدو واضحا مدى التشابه بين هذا التقسيم والتقسيم الذي قدمه عبد الرحمن عزي.
·هذا بالإضافة الى عدم وضوح منهجية النظرية، أهي كمية أم كيفية مع العلم أن المنهجيتين تختلفان جذريا في عدة نقاط (كيفية النظر الى الظاهرة المدروسة، دور الباحث، الهدف من البحث، مشكلة التعميم، مشكلة الاستقراء...) وهو الأمر الذي يجعل من الرغبة في الجمع بينهما مستحيلة ولا تستند الى ارضية ابستمولوجية مقنعة.

4-  مشكلة تأثره بالأفكار السابقة:

قد يكون العلم تراكمي، ولا يضير الباحثين تأثرهم بمن سبقهم، وهو ما جعل عبد الرحمن عزي يصرح في كل موضع عن تأثره ببعض المفكرين والأفكار، ولكنه في سياق الحديث عن نظرية جديدة تماما قد يمثل ذلك مشكلة وتحديا أمام إثبات مناحي الابتكار والتجديد، وأما تأثر عبد الرحمن عزي فقد كان بالشخصيات والمدارس والنظريات الآتية:

الشخصيات:

1-  مالك بن بني:
لم يخفي عبد الرحمن عزي تأثره الشديد بالمفكر الجزائري مالك بن نبي، ويظهر ذلك في كثير من المواضع في دراساته الكثيرة، ولكن دراسته المعنونة بـ :الإعلام في فكر مالك بن نبي (مقاربة استقرائية) ([18]) ، تبين بوضوح جلي مدى تاثره بأفكاره، وذلك ما جعله يقدم وصوغ مفهوم "القابلية للإعلامية للتبعية" استحضارا لمفهوم القابلية للاستعمار، ومعادلة (الانسان، التراب، الزمن، الإعلام) المنتسبة إلى مالك بن نبي.
2- النورسي:
ويبرز اغتراف عبد الرحمن عزي من هذا المفكر فيما اصطلح عليه بالأخلاقيات القيمية الإعلامية (الإيمان، البحث عن الحقيقة، الاتزان، الصدق، الاستقلالية، المحاسبة)، وذلك على إثر دراسته الاستقرائية لفكر بديع الزمان سعيد النورسي، الذي اعتبره بمثابة "غاندي المسلمين" في زمن الانحصار الحضاري([19]).
3- بيار بورديو:
يلتقي عبد الرحمن عزي بالفيلسوف الفرنسي في أكثر من موضع، ولعل الالتقاء لا يكون دائما مباشرا، ولكن اشتراكهما في النظر إلى بعض الظواهر يلفت الانتباه، من بين تلك الظواهر:

بيار بورديو
عبد الرحمن عزي
العنف
العنف الرمزي
عنف اللسان والإعلام
الرأسمال
الرأسمال الاجتماعي
الرأسمال الرمزي/ القيمي
الرأي العام
نفيه تماما
استبداله بالمخيال الإعلامي (المجرد والمجسد)
هذا الاشتراك لا يمكن أن يكون صدفة، ولعل قراءات عبد الرحمن عزي لهذا المفكر جعلته ينتبه إلى المشكلات التي طرحها ثم إعادة أقلمتها انطلاقا من فكره وانتمائه الحضاري القيمي.
4- جاك دريدا:
 رغم تحفظه "جزئيا" من استخدام أداة التفكيك من دون وعي ثقافي حضاري ذلك لأن التفكيك من أجل التفكيك قد يحمل بعض النزعة العدمية على ما ذهب إليه بعض النقاد. إلا أن عبد الرحمن عزي لم ينفي من أن بعض ما يقوم به يحمل بعض التفكيك ولكن من أجل إعادة البناء انطلاقا من القيمة المعيارية وهو ما لا ينسجم مع الطرح المذكور إلا في اقتباس الأداة([20]).
النظريات
الملاحظ على جل الدراسات التي قام بها (عبد الرحمن عزي) فهو ميله الجلي واستخدامه البيّن لأدوات البراديغم التأويلي الذي ينحى منحى البحوث الكيفية وخاصة منها البنيوية عند استعانته بأداة التضاد الثنائي، والظاهراتية عند استئناسه بمستويات الحقيقة، ومبدأ الاختزال الذي تطرحه هذه المدرسة.
يبدو استعانة عبد الرحمن عزي ببعض النظريات الجزئية واضحا من خلال الآثار السلبية والايجابية لوسائل الإعلام على الثقافة ويمكن توضيح ذلك كالآتي:
الأثر
النظرية الأصل
جمهرة الثقافة
النظرية النقدية
الإعلام والتفسير والتحليل.
وظيفة التنفيس، وظيفة تدعيم القيم
الخلل الوظيفي: الخمول والبلادة، الغزو الثقافي، اضعاف روح النقد، زيادة الخضوع الاجتماعي.
الوظيفية
الإشباع والتحويل والترفيه: الاستخدامات والإشباعات.
نظرية الاستخدامات والإشباعات
تقمص أدوار النجوم
نظرية التقمص الوجداني
الفجوة الإعلامية
نظرية الفجوة المعرفية

5-  تحديات أخرى:  

-       الاهتمام  والتركيز على الإعلام او الاتصال الجماهيري دون انواع الاتصال الاخرى كالاتصال التنظيمي والاتصال الشخصي..
-       عدم وضوح موقف النظرية من "جمهور وسائل الإعلام" ودوره، أما الافتراض الذي يقول: "كلما ارتبطت محتويات وسائل الإعلام بالقيم كلما كانت الاثار ايجابية، وبالمقابل يكون التأثير سلبيا إذا كانت المحتويات لا تتقيد بأية قيمة او تتناقض مع القيم"، فهو يوحي بالحكم على سلبية الجمهور. وهنا نطرح تساؤلا عن دور القيم الذي قد يتحلى بها الجمهور في ان تخلق لديه مناعة اتجاه المحتويات السلبية؟
-       من التحديات التي تواجه النظرية ايضا تراوح مساهمة الباحثين المهتمين بالنظرية على مستوى التعريف بالنظرية فقط دون التحلي بالجرأة الكافية للمبادرة والاثراء.

خاتمة:

في آخر هذه الورقة، يجب أن أذكر بأن الانتقادات المقدمة كانت من باب النقدي الذاتي والتفتح على الأنا، وتوسيع الإدراك والوعي بالذات أكثر منه أي شيء آخر. ولعله الوقت المناسب من خلال هذا الملتقى العلمي الكبير للدعوة الجدية إلى تضافر الجهود لدراسات أفكار عبد الرحمن عزي بموضوعية وجدية، والابتعاد قدر الإمكان عن الاستسهال، أو التجريد، أو الوقوع في فخ الحماسة الزائدة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

للمداخلة مراجع



تعليقات

  1. شكرا على هذه المداخلة القيمة، ولكن، هل يمكن الكشف عن قائمة المراجع المعتمدة فيها حتى تكتمل الفائدة منها وتكون مفتاحا لتوسع الآخرين وتعمقهم فيما ورد فيها من خلال المراجع المشار إليها.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).