التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في النقد الذاتي: من أجل المتابعة والتقويم للمسار التغييري (2)


د.نورالدين لبجيري


قال تعالى:

﴿وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21)﴾ سورة الذاريات

ثانيا: الحراك بين مرحلة الروح وإعادة تجديد المنظومة الحاضرة

1- علاقة الحراك بمرحلة الروح في إطار الدورة الحضارية لإعادة بعث الأمة

2- اتجاه الحراك نحو تجديد المنظومة الحاضرة.

3- استراتيجيات مرحلة التمعقل (العبور الآمن).

1- علاقة الحراك بمرحلة الروح في إطار الدورة الحضارية لإعادة بعث الأمة: 

تحدث مالك بن نبي عن مرحلة الروح في إطار الدورة الحضارية للأمم، ولقد أخذت منظوره هذا وحاولت توظيفه في توصيف تشكل الحركات التغييرية التي تعمل في إطار أكبر يتصل بميلاد المجتمعات والأمم، ولقد افترضت أن لهذه الحركات نقطة ميلاد ومرحلة دافعة أسميتها بالمرحلة الدافعة، تليها مرحلة أخرى أسميتها بمرحلة التمعقل، وكلا المرحلتين إن نجحتا وتناغمتا مع ميلاد حركات تغييرية أخرى إنما سيصبان في مرحلة الروح التي تحدث عنها مالك بن نبي، والتي تشكل المرحلة الأولى في ميلاد المجتمع الكبير، وعليه فإنني أفترض أن هذه الحركات التغييرية ما هي إلا روافد تصب في نهر أكبر منها، هو نهر الأمة، ومن هذا المنطلق يمكن الحديث عن مرحلتين مفصليتين للحراك، هما المرحلة الدافعة ومرحلة التمعقل (من أجل العبور إلى...)، وتشكل المرحلة الدافعة الفترة التي يغلب عليها الشحن والارتكاز، شحن العوالم الروحية للجسم التغييري بأفكار بسيطة واضحة ولكنها ذات دلالات عميقة، ترتبط باستحضار المنظومة البائدة واختزال منطق وآليات مواجهتها فيها (أعني في تلك الأفكار البسيطة المختزلة لفكرة التغيير)، كما يمثل البعد الخلقي والنفسي ركيزة مهمة فيها، ونتصور أن مسار المرحلة الدافعة على ثلاث تدرجات:
تدرج المنطلق:
- تدرج الصقل:
- تدرج التمدد: بما يحمله الامتداد والتوسع من شحنات روحية قوية ...
يتدرج الانسان في فترة المنطلق (كفترة في المرحلة الدافعة) نحو استنشاق الروح الجديد، كأن شيئا جديدا يدخل جسمه، ويظهر في البداية على مستوى الجيل الأول للتغيير، وفي هذا التدرج تحدث تبدلات روحية نحو محيط هؤلاء الأفراد وتغيرات في عالم الأفكار تسمح لهم برؤية ما لا يراه غيرهم.
ثم يتطور الأمر عندما يكتشفوا أن هذا الأمر هو محل تشارك وتناغم أفراد آخرين.
فتنشأ علاقات روحية نحو بعضهم البعض، يتلوها محاولات لصقل (الدخول في تدرج الصقل) هذه الأفكار وإخراجها لمساحة أكبر (تمدد نحو عالم الأشخاص الحامل للفكرة الأولى).
ففي تدرج الصقل يتم صقل الأفكار والاتجاهات التي تسمح بتمدد الحركة التغييرية إلى مساحات أوسع .
تدرج التمدد: تتمدد فيه الروح الجديدة على المساحة الضرورية لظهور الجسم الجديد، ككيان له خصائص تميزنه عن الكيانات الأخرى في السلسلة التغييرية.
وتشكل بعض الأفكار التي خضعت للصقل في التدرج السابق الإطار الحيوي الذي سيغذي هذا التدرج، ولقد تتبعت هذا الحراك فوجدت أن الأفكار التي خضعت للصقل ونجحت في اعتمادها كلبّان تماسك لأفراد الحركة التغييرية هي:
أ‌- فكرة السِّلْمِية: وقد لاحظنا جميعا التباين الذي حصل بعد دعوة أطراف معينة للعصيان المدني، وكيف عادت الأمور إلى طبيعتها بعد التخلي عن فكرة العصيان، ويمكن اعتبار ذلك اختبار Test أظهر قوة هذه الفكرة في تماسك أفراد تدرج التمدد، ونشير إلى أن فكرة السلمية تختزن الجانب الخلقي والقيمي للحركة التغييرية، وهو ما يعد مؤشرا نوعيا على سلامة مرحلة الانطلاق، وخاصة ما سيوفره هذا من استحضارات روحية ممتدة على الفترات اللاحقة التي نتوقع أن تتشكل بعد الحراك. 
كما أن فكرة السلمية هي التي وفرت الآليات الممكنة لمجابهة المنظومة البائدة، ومنحت الحيز المناسب للتحرك، واستطاعت أن ترسم حدود القدرة الدافعة، حيث أقرت التوسط في استعمال الطاقة الدافعة بدل تحريرها، لأن تحريرها سيلغي القدرة على توجيهها وتأطيرها والتحكم فيها فيما بعد. 
ب‌- فكرة التغيير نحو الأفضل: لقد كان الحراك صامتا في التعبير عن تفاصيل التغيير، لا لأنه كان مدركا لهذه التفاصيل ولكن لأنه رفض فتح المجال للخوض فيها، الأمر الذي سمح للمخيال الفردي والجمعي من أن يظهر تصوراته لهذه الفكرة...، وهو ما سيكون محل نقاش وتحد في المراحل اللاحقة، وسنتحدث عن هذا التحدي وتصوراتنا لتخطيه حتى لا يشكل عامل تفكيك للجسم والمجتمع في نقاط أخرى. 
وعليه تختزن فكرة التغيير نحو الأفضل مكنون التغيير، وبقدر نقائها ترتفع الشحنة الروحية وتمتد، ولذلك علينا في هذه المرحلة أن نحافظ عند توصيفها على قدرتها على بناء اللحمة وتجسيد الكتلة والبناء، فالدعوة إلى التغيير نحو الأفضل تعني من بين ما تعني: إقرار العدالة والمساواة ورفض الاستكبار (الفرعونية، الاستبداد، الديكتاتورية) والعبودية، والسعي لتحقيق خير البلاد والعباد (تجاوز وضع الاعتلال إلى وضع التوافق مع مقتضيات العمران) ورفض الفساد (مختلف القوى والأفكار والسلوكات التي أصلت الفساد و...).
ويمكن القول أن المرحلة الدافعة قد نجحت، فقد حافظ الحراك على الأفكار السابقة في حيز التشارك، وخلق شحنات دافعة من الصعوبة تفريغها، وكون عالم أشخاص رسموا به الحيز الجديد في تعاملاتهم وصداقاتهم، 

2- الحراك وتجديد المنظومة الحاضرة 

أحب في البداية أن أشرح بعض المصطلحات المهمة في متابعة قراءة الموضوع، كما أشير إلى أنني استفذت في ذكرها من المصطلحات الموظفة في نظرية الحتمية القيمية، لكنني غيرت بعض المصطلحات بما يسمح من إدراكها في الواقع الاجتماعي، وهي:
- المثل العليا: وهي القيم والمبادئ العليا، والتي مصدرها الدين أو شيء مقدس عند فئة أخرى. 
- التصورات النظرية: هي ما يحمله المجتمع من نماذج تطبيقية تتعلق بتجسيد المثل العليا في واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي... 
- الوضع: أو الجانب السيء من الواقع، حيث يشكل الجانب السلبي أهم ميزة فيه لطغيانه على الجانب الإيجابي. 
- التمعقل: هو التصور النظري المتعلق بربط الوضع بالتصورات النظرية.
وعليه فمرحلة التمعقل هي المرحلة التي يبدأ فيها أطراف الجسم من تقديم التصورات النظرية لكيفية تصحيح الوضع وفق ما يحملونه من تصورات نظرية مستمدة من المثل العليا أو القيم، إذن فهي المرحلة التي يعبر عبرها العمل التغييري من المرحلة الدافعة إلى مرحلة البناء، وقد رأيت أن الحراك قد دخلها مع الجمعة الخامسة أو قبلها بقليل.
وفي هذا الإطار يمكن وضع الكثير من الاختلافات التي لاحظناها في أطراف جسم الحراك، عندما انتقلوا إلى تقديم تصوراتهم لمرحلة البناء، لكنني أتوقع أن تمر تدرجات هذه المرحلة نحو بناء قواعد ومخابر متخصصة ومتنوعة لتسطير الرؤى المقترحة، وفي هذا الإطار يمكن أن نعمل على تقديم مجموعة من الاستراتيجيات المهمة لتجاوز هذه المحلة بمنطق استحضار أخلاقيات المرحلة الدافعة.

3- استراتيجيات مرحلة التمعقل:

أ‌- استراتيجية الاحسان: أو أخلقة الفعل. 

وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ''إن الله كتب الإحسان على كل شيء...'' يمكن توظيف مختلف أساليب هذه الاستراتيجية، ومن أساليبها:
- أسلوب المُحرِّر وليس المصارع (تحرير الفئات الخائفة –الأئمة، ...الخ).
- أسلوب النصيحة بدل المهاجمة والفضيحة (الاتجاهات المخالفة داخل الحراك).
- أسلوب التحييد (بعض أشخاص المنظومة البائدة ممن لم يكونوا في الصفوف الأمامية) بدل إخراجهم.
- الرعاية بدل الحرمان.
- الانصات والتعليق المعقول بدل الاندفاع والعشوائية.

ب‌- استراتيجية الافراغ والإملاء:

وهي وظيفة مختصة بالطبقة المؤطرة والموجهة والمنظرة اتجاه عامة الأفراد وكذا فئة الشباب الذين لا يحوزون ثقافة سياسية وتغييرية عالية، لأنهم غالبا ما يستحضرون- وهم يتفاعلون مع أحداث وقضايا الساعة- أفكارا ونماذج من عالمهم الثقافي الذي اكتسبوه في خلوتهم الطويلة مع عالم الرياضة وكرة القدم، هذا العالم الذي غيبهم وأبعدهم عن التفاعل مع هذا العالم الموحش بالنسبة إليهم والموغل في النفاق، ولذلك جاءت نماذج تفاعلهم مع الأحداث متوافقة مع ما اكتسبوه في غيبتهم تلك.
لكن عملية الإفراغ هي أكبر من هذا التبسيط الذي ذكرناه، لأنها ترتبط كذلك بتغيير الأفكار التي أسست لتواجد المنظومة البائدة وبقائها هذه المدة الطويلة، وسأذكر أمثلة عامة عن هذه الأفكار:
• المصلحة العامة /الحزبية والجهوية والفئوية والأنانية 
• التحرر المنضبط بروح المسؤولية/ القابلية للاستعباد، الحرية المتحررة (قابلة للانفلات).
• الرؤية الكلية + التحليلية/ الرؤية الجزئية + الرؤية ال.
• التفكير المسؤول/ التفكير الاحتيالي.
• الاعتزاز بالانتماء / أفكار الدونية من المجتمعات الأخرى. 

ت‌- استراتيجية الاحتواء في إطار الدولاب: احتواء الجميع في إطار العمل لأهداف واحدة، وإدخال الجميع في دولاب الحركة الاجتماعية.

ث‌- استراتيجية تقديم الواجبات على المطالبة بالحقوق في مرحلة البناء.

ج‌- استراتيجية العمل الحر والمتخصص والمتنوع والبناء.

ح‌- استراتيجية التواصل والتنسيق المستمر 

خ‌- استراتيجية الجهر بالحق وعدم المداهنة.

د‌- استراتيجية المراجعة والنقد الذاتي

ذ‌- استراتيجية الثبات والصبر

ر‌- استراتيجية التفاني والمثابرة

ز‌- استراتيجية المرونة المنضبطة

س‌- استراتيجية الوضوح والشفافية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).