التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بؤس الدهرانية

باديس لونيس

على شاكلة "بؤس التاريخانية" لكارل بوبر، و"بؤس العالم" لبيار بورديو، جاء الكتاب ما قبل الأخيرللمفكر المغربي طه عبد الرحمن الذي صدر العام الماضي (2014م)، تحت عنوان (بؤس الدهرانية؛ النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين). سعى من خلاله مفكرنا إلى نقد المشروع (الدنيوي) للحداثة الذي توسلت من خلاله بآلية "فصل المتصل"، ففصلت الدين عن كل مجالات الحياة الحيوية حتى تستقل تلك المجالات بنفسها تدبيرا وتقديرا.
وأطلق طه على عملية انتزاع قطاعات الحياة المختلفة من الدين باسم عام هو "الدُّنيانية"، التي تتخذ صورا متعددة منها فصل السياسة عن الدين، وهو"العَلمانية"، ومنها فصل الدين عن العلم وهو "العِلمانية" (بكسر السين)، ولكن أشد الانفصالات خطرا وأبلغَها أثرا حسب طه عبد الرحمن هو "فصل الأخلاق عن الدين"، وهو ما قصده بـ "الدهرانية"، إشعارا منه بأن فصل الأخلاق عن الدين ينزع عن الأخلاق لباسها الروحي ويكسوها لباسا زمنيا.
والحقيقة أن قراءة هذا الكتاب لا يمكن أن تؤتي أُكلها حسب اعتقادي إذا ما تمت بمعزل عن الانتاج الفكري السابق لطه عبد الرحمن، ككتابه سؤال الأخلاق، والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، وروح الدين، وروح الحداثة... فكلها لبنات تصب في إطار بناء براديغم فكري جديد ينطلق من الذات ويستمد أسسه من التراث الاسلامي، ونقد الحداثة المقّلدة.
فطه عبد الرحمن يرى أن ما نشاهد في واقعنا العربي ما هو إلا نقلا للحداثة الموجودة في الواقع الغربي، وهو نقل يفتقر إلى الابداع،ولذلك يشير إلى وجوب التفريق بين واقع الأشياء وروحها. والروح هي مجموعة القيم والمبادئ التي يكون الواقع تجسيدا لها؛ فالدخول إلى الحداثة المرجوة يجب أن يكون عن طريق روحها التي تتأسس على ثلاثة مبادئ؛ مبدأ الرشدية ونصها (لا تقبل وصاية أحد على تفكيرك)، مبدأ النقد الذي يعني القدرة على الاعتراض على الذات والغير، ومبدأ الشمول الذي يعني عدم الاختصاص بمجال دون آخر.
ولا يغيب عن العارفين بطه محاولته من خلال مشروعه الفكري إعادة الاعتبار لسؤال الأخلاق، وهو السؤال الذي لم يلق في السياق المعرفي الاسلامي ما يستحقه من الاستشكال الفلسفي والاستدلال المنطقي رغم أنه لا يقل أهمية عن الفقه، ورغم أن الانسان يتحدد أساسا بالأخلاق، فإذا استوفى الاخلاق في حياته استوفى شرط الانسانية، كما أن الأخلاق لا تنحصر في مجموعة جزئية من أفعال الانسان، بل تشمل كل الأفعال بإطلاق؛ فما من فعل يأتيه الإنسان إلا ويصح الحكم عليه بالخير أو الشر، يستوي في ذلك "الفعل الحسي الخالص" كالأكل و"الفعل العقلي الخالص" كالفهم.
إن قراءة "بؤس الدهرانية"، لهي رحلة فكرية فلسفية روحية ممتعة ومليئة بالمفاجآت التي تخطف الأفئدة والعقول، وهي على ذلك مغامرة غير محمودة العواقب إذا ما لم يزود القارئ قبل الشروع فيها بأدوات التلقي وآليات الفهم الصحيحة، لأنها رحلة ستفكك الكثير من الافكار والمفاهيم وستهز الكثير مما يعتبر مسلمات وبديهيات، فشهية طيبة لكل من يبحث عن سبل فكرية جديدة ويسعى إلى إدراك المعرفة المبدعة الخلاقة.

نشر بجريدة الأوراس نيوز يوم الاحد 1 فيفري 2015م.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معايير الصدق والثبات في البحوث الكمية والكيفية

أ.د فضيل دليو جامعة قسنطينة3 مقدمة   من المعروف أن البحوث في العلوم الاجتماعية قد تصنف تبعا لمؤشر طبيعة البيانات المستخدمة إلى بحوث كمية وبحوث كيفية. تَستخدِم الأولى تقنيات كمية مباشرة وتلجأ إلى العد والقياس والإحصاء... أما البحوث الكيفية فهي غالبا ما تخلو من التكميم والقياس، ولا تستعمل التحاليل الإحصائية بل تعتمد على التحليل الكيفي وتركز على الفهم من خلال التفاعل مع الموضوع والظاهرة المدروسة.

أهم ثمانية كتب حول نظريات علوم الإعلام والاتصال

باديس لونيس كثرت في الآونة الأخيرة حركة التأليف في مجال علوم الإعلام والاتصال بتخصصاته المختلفة في المنطقة العربية، ولكن مع هذه الحركة والحركية يبقى مجال نظريات الإعلام والاتصال يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ليس من ناحية الكم فقط ولكن من ناحية الكيف بشكل خاص. لأن ما يُنتج هنا وهناك صار مبتذلا بشكل واضح، بل إن الكثير من الذين استسهلوا هذا المجال لم يكلفوا أنفسهم عناء إضافة أي شيء جديد حتى ولو كان من باب تنويع المراجع أو من باب التحليل والنقد، ما يفتح الباب واسعا حول التساؤل عن جدوى التأليف مادام صاحبها يجتر ما هو موجود أصلا من دون إضافة؟ هذا فضلا عن الحديث عن السرقات العلمية الموصوفة وذلك موضوع آخر.

"جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها"، كتاب الدكتور قسايسية الجديد

تدعمت المكتبة العربية في الايام القليلة الماضية بإصدار جديد عن دار الورسم للدكتور الجزائري علي قسايسية، عضو هيئة التدريس بكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر3. الكتاب جاء تحت عنوان: جمهور وسائط الاتصال ومستخدموها (من المتفرجين الى المبحرين الافتراصيين).